﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] يعني: أن كفار مكة أخرجوهم، ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ﴾ [الحشر: ٨] رزقًا يأتيهم، ورضوانًا رضا ربهم حين خرجوا إلى دار الهجرة، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨] في إيمانهم.
ثم مدح الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، فقال: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ﴾ [الحشر: ٩] يعني: المدينة، وهي دار الهجرة، تبوأها الأنصار قبل المهاجرين، وتقدير الآية: والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان، لأن الأنصار لم يؤمنوا قبل المهاجرين، وعطف الإيمان على الدار في الظاهر لا في المعنى، لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ، والتقدير: وآثروا الإيمان، أو اعتقدوا الإيمان، ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ [الحشر: ٩] لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين، وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم، ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾ [الحشر: ٩] أي: حسدًا، وحزازة مما أوتي المهاجرين دونهم، ويؤثرون المهاجرين، على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، ﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] فقر وحاجة، بين الله تعالى أن إيثارهم لم يكن عن غنى وعن مال، ولكن كان حاجة، وكان ذلك أعظم لأجرهم.
١١٧٩ - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِي، أنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا أَخَذْتُ بِيَدِي مِيزَانًا قَطُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، نا الْفُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَصَابَهُ الْجَهْدُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَزْوَاجِهِ، هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ، فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يُضِيفُ هَذَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَتَى بِهِ مَنْزِلَهُ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: هَذَا ضَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأكْرِمِيهِ وَلا تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلا قُوتُ الصِّبْيَةِ، فَقَالَ: قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا وَلا يَطْعَمُوا شَيْئًا، ثُمَّ أَسْرِجِي وَابْرُزِي، فَإِذَا أَخَذَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكَ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ، فَأَطْفِئِيهِ وَتَعَالَيْ نَمْضُغُ أَلْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَشْبَعَ، فَقَامَتْ إِلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا عَنْ قُوتِهِمْ، ثُمَّ قَامَتْ وَخَرَجَتْ، فَلَمَّا أَخَذَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ، فَأَطْفَأَتْهُ وَجَعَلا يَمْضُغَانِ أَلْسِنَتَهُمَا، فَظَنَّ الضَّيْفُ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ مَعَهُ حَتَّى شَبِعَ، وَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَا غَدَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمَا تَبَسَّمَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فُلانٍ وَفُلانَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩] "
وقال داود بن أبي هند: كان أنس بن مالك يحلف بالله عز وجل: ما في الأنصار بخيل، ويقرأ هذه


الصفحة التالية
Icon