لاحتمال أنه علم ذلك بتعليم الله تعالى له ذلك. ولما قالوا: إن عيسى كان يحيي الموتى فوجب أن يكون إلها، فرد الله عليهم بقوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ. والمعنى إن حصول الإحياء على وفق قوله عليه السلام في بعض الصور لا يدل على كونه إلها لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهارا لمعجزته وإكراما له. ولما قالوا: يا أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أن عيسى لم يكن له أب من البشر فوجب أن يكون ابنا لله، فأجاب الله تعالى عن ذلك أيضا بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ فإن هذا التصوير لما كان من الله تعالى فإن شاء صوّر من نطفة الأب، وإن شاء صوّره ابتداء من غير أب. ولما قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم: ألست تقول: إن عيسى روح الله وكلمته؟ فهذا يدل على أنه ابن الله! فأجاب الله عن ذلك بأن هذا اللفظ من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فظهر بذلك المذكور أن قوله تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى أن عيسى ليس بالإله ولا ابن الإله. وأما قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم. وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ جواب عن تمسكهم بقدرة عيسى على الإحياء ونحوه. لأنه لو قدر على الإحياء لقدر على الإماتة، ولو قدر على الإماتة لأمات اليهود الذين قتلوه- وعلى زعم النصارى- فثبت أن حصول الإحياء في بعض الصور لا يدل على كونه إلها، وهو جواب أيضا عن تمسكهم بأن من لم يكن له أب من البشر وجب أن يكون ابنا لله، فكأنه تعالى يقول كيف يكون عيسى ولد الله وقد صوّره في الرحم والمصوّر لا يكون أبا للمصوّر. وأما قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى آخر الآيات فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن: أن عيسى روح الله وكلمته، ثم إنه تعالى لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد زجرا لسائر النصارى عن قولهم بالتثليث فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهذا تثبيت لما تقدم من أن علم عيسى ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء في بعض الصور لا يكفي في كونه إلها. فإن الإله لا بدّ وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أي محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال، قطعية الدلالة على المعنى المراد.
هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل في الكتاب وعمدة ترد إليها آيات متشابهات. ومثال المتشابه قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
[الإسراء: ١٦]. فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا والمحكم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: ٢٨] ردا على الكفار فيما حكى عنهم وإذا فعلوا فاحشة قالوا: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها والآية المتشابهة قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: ٦٧]. والآية المحكمة قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. [مريم: ٦٤] وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ أي وآيات أخر محتملات لمعان متشابهة لا يتضح