وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي.
والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جميع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فإن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في قوم هلال بن عويمر لأنهم قتلوا قوما من بني كنانة أرادوا الهجرة إلى رسول الله ليسلموا فقتلوهم وأخذوا ما كان معهم من السلب. وقيل: نزلت في قوم من عرينة وكانوا ثمانية نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما شربوا وصحوا قتلوا الراعي مولى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسمه يسار النوبي وساقوا الإبل وكانت خمسة عشر، فبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عشرين فارسا أميرهم كرز بن جابر الفهري في طلبهم فجيء بهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمّرت أعينهم بأن أحمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب ضوءها، وتركوا في الحرة حتى ماتوا ذلِكَ أي الحد لَهُمْ خِزْيٌ أي هوان وفضيحة فِي الدُّنْيا إذا لم تحصل التوبة. أما عند
حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) أي أشد مما يكون في الدنيا لمن لم يتب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) أي إن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين لا يسقط. فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول وجوب القصاص بسبب هذه التوبة لا جوازه قصاصا، وإن أخذوا مالا وجب عليهم رده ولم يكن عليهم قطع اليد والرجل، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال فيسقط وجوب القتل ويجوز استيفاؤه ويجب ضمان المال. وعن علي رضي الله عنه: إن الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته، ودرأ عنه العقوبة، أما إذا تاب القاطع بعد القدرة فالتوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه.
وقال الشافعي رحمه الله: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته فلما تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هلا تركتموه»
«١» وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى وهذا التفصيل إنما يكون للمسلم أما إن كان القاطع كافرا سقطت عنه الحدود مطلقا لأن توبته تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب: الرجم.


الصفحة التالية
Icon