الكلام ما يدفعه لَتَجِدَنَّ يا أكرم الخلق أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا من أهل مكة لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله»
«١».
وقد قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى فليس مذهبهم ذلك بل الإيذاء حرام في دينهم فهذا وجه التفاوت وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم وَلَتَجِدَنَّ يا أشرف الخلق أَقْرَبَهُمْ أي الناس مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود للأشعار بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهودا فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهود بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل أو لتحركهم في دراستهم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ أي علماء وَرُهْباناً أي عبادا أصحاب الصوامع وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) عن قبول الحق إذا فهموه كما استكبر اليهود والمشركون من أهل مكة وَأنهم إِذا سَمِعُوا أي القسيسون والرهبان الذين آمنوا منهم ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي تمتلئ من الدمع حتى تفيض أي تسيل مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم أو مما عرفوا بعض الحق الذي هو القرآن.
روي أن قريشا تشاورت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من آمن منهم، فآذوهم وعذبوهم، ومنع الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نزل بأصحابه أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا».
فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب