ولو نزل الكتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا أشرف الخلق كما سألك عبد الله بن أبي أمية المخزومي وأصحابه في صحيفة واحدة فرأوه عيانا ولمسوه لطعنوا فيه وحملوه على أنه مخرفة وقالوا: إنه سحر.
وقال ابن إسحاق: والقائلون بالأقوال الآتية، زمعة بن الأسود والنضر بن الحرث بن كلدة، وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف، والعاص بن وائل كما أخرجه ابن أبي حاتم.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي هلا أنزل على محمد ملك يخبرنا بصدقه في دعوى النبوة ويشهد بما يقول. والمعنى أن منكري النبوات يقولون: لو بعث الله إلى الخلق رسولا لوجب أن يكون ذلك الرسول واحدا من الملائكة، لأن علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم، وامتيازهم عن الخلق أكمل، ووقوع الشبهات في نبوتهم أقل. فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجهين:
الأول: قوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لفرغ من هلاكهم أي لو أنزل الملك على هؤلاء الكفار فربما لم يؤمنوا، وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فحينئذ ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب، وأيضا إنهم إذا شاهدوا الملك زهقت روحهم من هول ما يشاهدون وذلك أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر. فإن رآه على صورته الأصلية لم يبقى الآدمي حيا فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى جبريل على صورته الأصلية غشي عليه وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط، وخصم داود وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك وهم مؤيدون بالقوى القدسية فما ظنك بمن عداهم من العوام، وأيضا إذا رآه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف فيجب إهلاكهم وذلك مخل بصحة التكليف، وإن رآه على صورة البشر فلا يتفاوت الحال سواء كان هو في نفسه ملكا أو بشرا، وأيضا إن إنزال الملك يقوي الشبهات لأن كل معجزة ظهرت عليه ردوها وقالوا: هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) أي لا يمهلون بعد نزول الملك طرفة عين وكلمة، «ثم» للتنبيه على أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأشق.
والثاني: قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي ولو جعلنا الرسول ملكا لجعلنا الملك على صورة الرجل، لأن البشر لا يستطيعون أن ينظروا إلى الملائكة في صورهم التي خلقوا عليها ولو نظر إلى الملك ناظر من الآدميين لصعق عند رؤيته وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) أي ولو صورنا الملك رجلا لصار فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيسا لأن الناس لا يظنون أنه بشر مع أنه ليس بشرا، وإنما كان فعلهم تلبيسا لأنهم يقولون


الصفحة التالية
Icon