إيمانا حقا، لأنهم حققوا إيمانهم بضم الأعمال القلبية والقالبية إليه لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ فمراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة وَمَغْفِرَةٌ بأن يتجاوز الله عن سيئاتهم.
وقال العارفون: هي إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) - قال هشام بن عروة هو ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) أي إنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من المدينة بسبب حق يظهر وهو علو كلمة الإسلام والنصر على أعداء الله، والحال أن فريقا من المؤمنين لكارهون الخروج للقتال لقلة العدد، أو المعنى الأنفال ثابتة لله ثبوتا بالحق كإخراجك من بيتك بالمدينة بالحق أي بالوحي،
وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم: أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وعمرو بن هشام. فأخبر جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا وبلغوا وادي دقران وهو قريب من الصفراء نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم جبريل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي أصحابه فقال: «ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟» - وهو اسم عسكر مجتمع- فقالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدو.
فتغير وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ردد عليهم فقال: «إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل» - أي بجميع أهل مكة- «ومضى إلى بدر» فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير، ودع العدو. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عند ذلك أبو بكر وعمر فأحسنا في القول، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض، فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: يا رسول الله امض كما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس». فقال سعد بن معاذ: امض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقي بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبسطه قول سعد ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم»
«١». يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ تلقي النفير

(١) رواه الطبري في التفسير (٩: ١٢٤)، وابن كثير في التفسير (٣: ٥٥٧)، والبيهقي في دلائل النبوة (٣: ٣٤)، وابن كثير في البداية والنهاية (٣: ٢٦٢).


الصفحة التالية
Icon