أشرف الخلق بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح أن الله ينزهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه ما في السموات والأرض وتنزهه الطير تنزيها خاصا بها حال كونها باسطات أجنحتها في جو السماء، فإن كل موجود يدل على وجوب صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي كل واحد من المخلوقات قد علم هو دعاءه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله تعالى إياه، فالضمائر كلها عائدة على كل.
وروي عن ابن ثابت قال: كنت جالسا عند محمد بن جعفر الباقر فقال لي: أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها قلت: لا، قال: فإنهن يقدسن ربهن، ويسألنه قوت يومهن. وقال بعض العلماء: إنا نشاهد أن الله تعالى ألهم الطيور وسائر الحشرات أعمالا لطيفة يعجز عنها أكثر العقلاء، وهذا دليل على أن الله يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) أي بحقيقة ما يفعلونه بالكمال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أن جميع الموجودات في تصرفه تعالى إيجادا واعداما لأنه خالق لها وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أي رجوع الكل بالفناء والبعث. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي يسوق سَحاباً متفرقا، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي يجمع بين قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي مجتمعا بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من فتوق السحاب، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ف «من» الأولى ابتدائية، وكذا الثانية بدل اشتمال من «من» الأولى، و «من» الثانية تبعيضية، أي وينزل مبتدئا من السماء من جبال كائن في السماء بعض برد، ففي السماء جبال من برد، كما أن في الأرض جبالا من حجارة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون. والباقون بفتحها وتشديد الزاي فَيُصِيبُ بِهِ أي بالبرد مَنْ يَشاءُ أن يصيبه، فيضر ما يقع عليه من حيوان ونبات، وَيَصْرِفُهُ عَنْ
مَنْ يَشاءُ
صرفه عنه فلا يسقط عليه. يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي يقرب ضوء برق السحاب يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) أي يسلب الأبصار الناظرة له لشدة الإضاءة وسرعة ورودها، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بالمعاقبة بينهما، وبتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما تقدم ذكره لَعِبْرَةً أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم، وكمال قدرته وعلمه لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) أي لكل من له بصر يرجع إلى بصيرة. وهذا يدل أن الواجب على المرء أن يتفكر في هذه الأمور، ويدل على فساد التقليد. وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ أي كل حيوان يدب على الأرض من ماء، فمن صلة كل دابة لا صلة خلق، فكل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى وقيل: أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة، فصارت ماء، ثم خلق منه النار والهواء والتراب والنور. والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء.