جلب نفع أو دفع ضر. قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) أي فعند هذه الحجة القوية لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى قولهم: ما علمنا منهم ما ذكر من الأمور، بل وجدنا آباءنا يعبدون مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد، وعلى وجوب الاستدلال. قالَ إبراهيم: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) أي أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه حق العلم، أو أخبروني ما كنتم تعبدون هل هو حقيق بالعبادة أو لا؟ وهذا استهزاء بعبدة الأصنام. فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) فالاستثناء إما منقطع فالمعنى: فاعلموا أن معبودكم عدو لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فأعبده. أو متصل فالمعنى:
فإن كل معبود عدو لي إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوي بل هو وليي ومعبودي، وصوّر سيدنا إبراهيم الأمر في نفسه تعريضا بهم فالمعنى إني تفكرت في أمري فرأيت عبادتي للأصنام عبادة للعدو لأن من يغري على عبادتها هو الشيطان، فإنه أعدى عدو الإنسان فاجتنبتها. وأراهم سيدنا إبراهيم أن تلك الكلمة نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول وأبعث إلى الاستماع منه الَّذِي خَلَقَنِي من النطفة على هيئة التصوير، فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) أي يرزقني بكل منافع الرزق وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وأكثر أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي في الدنيا بقبض روحي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) يوم القيامة للمجازاة، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي بترك الأولى يَوْمَ الدِّينِ (٨٢) أي الجزاء.
روي أن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه لأنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين»
. واستغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم، وتعليم لأممهم ليكونوا على حذر، ثم ذكر الله تعالى مناجاة سيدنا إبراهيم بقوله: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً أي كمالا في العمل، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) أي الأنبياء المرسلين في درجات الجنة أي اجمع بيني وبينهم في الجنة، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) أي اجعل لي جاها وذكرا جميلا باقيا إلى يوم الدين، فإن من صار ممدوحا بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل يصير داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل، فيكون له مثل أجورهم، أو اجعل من ذريتي في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى، وقد أجاب الله دعاءه فما من أمة إلا وهي تثني عليه، وجعله الله شجرة فرع الله منها الأنبياء، وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) أي اجعلني بعض الذين يرثون جنة النعيم، وهذا إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بكرمه تعالى وَاغْفِرْ لِأَبِي أي اهده إلى الإيمان إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) من طريق الحق وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) أي ولا تجعلني من الذليلين، ولا من المستحيين يوم