الْأَوَّلِينَ
(٣٦) وقد كذبوا فإنهم سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام. وَقالَ لهم مُوسى - وقرأ ابن كثير بغير واو-: رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، أي ربي عالم بمن جاء بالرسالة من عنده، وبمن تكون له العاقبة المحمودة في الدنيا وهي أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان، وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. فالدنيا خلقت مزرعة للآخرة ومجازا إليها. والمقصود بالذات هو الثواب للمطيعين العابدين فيكون الثواب هو العاقبة الأصلية ولا اعتداد بعاقبة السوء، لأنها من نتائج أعمال الفجار ويكون العقاب إنما قصد بالتبعية، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) أي يظفر المشركون بالنجاة والمنافع كما قال القائل من بحر الطويل:

فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
وَقالَ فِرْعَوْنُ، بعد ما جمع السحرة لمعارضة موسى فكان من أمرهم ما كان: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي بعد اتخاذه لبنا ولم يقل فرعون. اطبخ لي الآجر لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلم صنعته لهامان. فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي قصرا عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي أنظر إليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) في ادعاء وجود إله غيري فليس في السماء من إله.
واعلم أن عادة فرعون متى ظهرت حجة موسى يدفعها بشبهة يروجها على أغمار قومه، وهي قوله: لا دليل على وجود إله غيري، فلا أثبته بل أظن موسى كاذبا في دعواه، وذلك نفى إله غير نفسه. وقوله: ولا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره، فهذا هو ادعاؤه الإلهية لا ادعاؤه كونه خالقا للسماء والأرض، ومن مكر فرعون ودهائه أنه لما دل سيدنا موسى عليه السلام فرعون بقوله: رب السموات والأرض أو هم فرعون ببناء أغمار قومه أن موسى قال:
إن إلهه في السماء وأمر فرعون وزيره ببناء الصرح. قيل: لما أمر فرعون ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع عنده خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص، ونجر الخشب، وسبك المسامير، فبنوا الصرح ورفعوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بناء أحد من الخلق فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه راكبا على البراذين، فأمر بنشابة، فضرب نحو السماء، فردت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى فبعث الله جبريل عليه السلام عند غروب الشمس، فضربه بجناحه، فقطعه ثلاث قطع: قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت منه ألف رجل، وقطعة وقعت في البحر، وقطعة وقعت في المغرب. ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ أي ملتبسين بغير استحقاق، وَظَنُّوا أي فرعون وجموعه القبط أَنَّهُمْ إِلَيْنا أي إلى حكمنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) بالنشور.


الصفحة التالية
Icon