وقيل: إن موسى خاف من مفاجأته بمقتضى طبع البشرية من النفرة من الحيات، ومن الاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه، فإن خوف البشرية مركوز في جبلّة الإنسان، وذلك مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها. ولذلك قال تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي أعلى درجة من أن تخاف من المخلوقات دون الخالق. وَأَلْقِ، على الأرض ما فِي يَمِينِكَ، يا موسى وإنما لم يقل وألق عصاك تعظيما لشأنها، أي لا تحفل بهذه الأجرام فإن في يمينك شيئا أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء عنده، فألقه، تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، أي تلقم ما طرحوا من الحبال والعصي، الذي خيل إليك سعيها وخفتها.
وقرأ ابن عامر «تلقّف» بتشديد القاف، وبالرفع. والعامة بالجزم، وحفص بسكون اللام وبالجزم إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ أي لأن الذي صنعوه عمل ساحر. وقرأ حمزة، والكسائي و «كيد سحر» بكسر، فسكون، على أن الإضافة للبيان. وقرأ مجاهد، وحميد، وزيد بن علي، بنصب «كيد ساحر»، على أنه مفعول به، و «ما» كافة مزيدة، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ، أي لا يحصل له مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، حَيْثُ أَتى (٦٩) أي أينما كان، وهذا من تمام التعليل.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي فألقى موسى عصاه، فتلقّفت حبال السحرة وعصيّهم فسجدوا، فإنهم من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا، فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيّهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم للشكر والسجود. روي أنهم في سجودهم رأوا الجنة، ومنازلهم التي يصيرون إليها، ثم رفعوا رؤوسهم، قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قال رئيسهم: كنا نغالب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا لو غلبنا، فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه؟!
قالَ لهم فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له، إِنَّهُ أي موسى لَكَبِيرُكُمُ أي أستاذكم، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، وأنكم تلامذته في السحر، فتوافقتم على أن تظهروا العجز من أنفسكم ترويجا لشأنه وتفخيما لأمره، فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، أي في حال كونها مختلفات، والقطع من خلاف، أن تقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لا كل واحد من العضوين، فإن هذا يد، وذاك رجل، وهذا يمين وذاك شمال، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، أي عليها، وأتى بكلمة «في»، للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا، تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أي أنا أو موسى، أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١). وهذا لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به، لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء. أو لإرادة أن إيمانهم كان على خوف من موسى، حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم، فخافوا على أنفسهم أيضا، وفي ذلك تبجّح فرعون بما ألفه من تعذيب الناس بأنواع العذاب. قالُوا: أي السحرة لفرعون غير مكترثين بوعيده: لَنْ نُؤْثِرَكَ، أي لن نختار اتباعك عَلى ما جاءَنا من الله تعالى على يد موسى عليه السلام، مِنَ