الآخرة، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) في تبليغ الرسالة، وإقامة علامات الرياسة، فلا يبقى من يقدر على الإكراه على الكفر وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) أي نفيسا قليل النظير، وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه، فإن فتح مكة كان سببا لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان، وسببا لتطهير العباد من العصيان، وبالفتح يحصل الحج، ثم بالحج يحصل الغفران.
وقال الشعبي: المراد من هذا الفتح صلح الحديبية. لقد أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة غيرها، حيث بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبلغ الهدى محله، وأطعموه نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس، ففرح المسلمون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وكان في فتح الحديبية آية عظيمة هي أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فتمضمض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه وشبع، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلّم: «صلح الحديبية أعظم الفتوح»
. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي الله وحده هو الذي أنزل الطمأنينة في يوم الحديبية وغيره في قلوب الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بسبب ذكرهم الله تعالى تحقيقا للنصر، لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي ليزدادوا إيمانا بشرائع الدين مع ايمانهم بالله ورسوله، وليزدادوا إيمانا بالفروع مع إيمانهم بالأصول، فإنهم آمنوا بأن محمدا رسول الله، وأن الله واحد، والحشر كائن، وآمنوا بأن كل ما يأمر الله به واجب، وبأن كل ما يقوله النبي صلّى الله عليه وسلّم صدق، وهو الّذي قد قال لهم: «لا بد من أن تدخلوا مكة وتطوفوا بالبيت». وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة أو الأسباب، كالصاعقة والزلازل. فكان تعالى قادرا على إهلاك عدوه بجنوده، ولكن لم يفعل ذلك بل أنزل على المؤمنين ثبات قلوبهم ويقينها مع الله ورسوله ليكون إهلاك أعدائهم بأيديهم فيكون لهم الثواب. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأمور حَكِيماً (٤) في تدبيره تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لا يخرجون منها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، أي يغطيها ولا يظهرها وَكانَ ذلِكَ أي المذكور من الإدخال والتفكير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥). والظرف حال من فوزا أي كائنا في علم الله تعالى، فجاء عبد الله بن أبيّ بن سلول حين سمع بكرامة الله للمؤمنين فقال: يا رسول الله، والله ما نحن إلّا كهيئتهم فما لنا عند الله؟ فأنزل الله تعالى قوله: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، أي ظن الأمر السوء فإنهم ظنوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حين خرجوا إلى الحديبية لا يرجعون إلى المدينة وأن المشركين يستأصلونهم، والتعذيب مذكور لكونه مقصودا للمؤمنين كأن الله تعالى يقول:
بسبب ازديادكم في الإيمان يدخلكم الله جنات في الآخرة ويعذب الكافرين والمنافقين بأيديكم في الدنيا يكون تعذيبهم بإيصال الله الهموم إليهم بسبب علو كلمة المسلمين، وبتسليط النبي وأصحابه عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي عليهم دائرة الفساد، فيحيط بهم حيث لا خروج لهم منه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم السين والباقون بالفتح. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهذا إشارة إلى أن الّذي نزل بهم يكون على وجه التعذيب، فإن من كان به بلاء قد يكون مصابا على وجه


الصفحة التالية
Icon