ممن يصدقونهم وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩). أي المجاوزين للحدود في الكفر، بعذاب الاستئصال في الدنيا. لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش، كِتاباً أي قرآنا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي فيه ما يوجب الثناء عليكم، لكونه بلسانكم وفيه موعظتكم، أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) ؟ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون؟ إن ذلك الكتاب شرفكم، وسبب اشتهاركم لكونه نازلا بينكم على لسان رسول منكم.
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً أي وكثيرا كسرنا من أهل قرية كانوا كافرين بآيات الله، بأن قتلوا بالسيوف، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ (١١) أي ليسوا منهم نسبا، ولا دينا فسكنوا ديارهم. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا أي أدركوا عذابنا الشديد إِذا هُمْ مِنْها أي القرية يَرْكُضُونَ (١٢) أي يهربون مسرعين، فقيل لهم- بلسان الحال أو بلسان المقال-: لا تَرْكُضُوا أي لا تهربوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ أي أنعمتم فِيهِ من العيش والحال الناعمة، وَمَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣). أي لكي يسألكم الوافدون عطاياكم، إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس، أو كانوا بخلاء، فقيل لهم ذلك، تهكما إلى تهكم. قالُوا لما أيقنوا بنزول العذاب: يا وَيْلَنا أي هلاكنا، إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤). أي بقتل نبينا. فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ، أي قولهم، أي فلم يزالوا يكرّرون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي مثل الزرع المحصود بالمناجل في استئصالهم، خامِدِينَ (١٥). أي ميتين لا يتحركون أي أنهم أهلكوا بالعذاب، حتى لم يبق لهم حسّ، ولا حركة، وجفّوا كما يجفّ الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار.
وهذه قصة أهل قرية في جهة اليمن- يقال لها: حضور بفتح الحاء وبالضاد المعجمة- بعث الله لهم نبيا وهو موسى بن ميشا، بن يوسف، بن يعقوب، وكان قبل موسى بن عمران، فقتلوا ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسلّط الله عليهم بختنصر. كما سلّطه الله على أهل بيت المقدس، فلما علموا أنهم مدركون، خرجوا هاربين، فقالت لهم الملائكة استهزاء لا تَرْكُضُوا إلخ.
فرجعوا، فقتلهم جميعا ولم يترك فيهم عينا تطرف. فلمّا رأوا القتل فيهم أقرّوا بذنوبهم وندموا وقالوا: يا وَيْلَنا أي يا ويل، احضر فهذا وقتك، ولم ينفعهم هذا الندم كقوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦). أي وما سوّينا هذا السقف المرفوع، وهذا المهاد الموضوع، وما بينهما من العجائب، التي لا تحصر أنواعها خالية عن الحكم، كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفروشهم للعب، وإنما سوّيناها لفوائد دينية، ودنيوية، ليتفكّر المتفكّرون فيها، ويستدلوا بها إلى معرفتنا، وللمنافع التي لا تحصى. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً أي يلعب به لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا أي من جهة قدرتنا مما يليق بشأننا من المجردات، لا من الأجسام المرفوعة، والأجرام الموضوعة. لكن يستحيل إرادتنا له لمنافاته الحكمة، فيستحيل اتخاذنا له قطعا، إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) اتخاذ اللهو أردناه لكنا لم نرده فلم نتخذه، ويجوز أن


الصفحة التالية
Icon