السموات والأرض فقط، مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) بذلك، فأنا قادر على إثبات الحجة في ذلك، وأني لست مثلكم أقول بغير إثبات الحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على مجرّد التقليد بآبائكم. وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أي لأكسرنّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين إلى العيد.
روي أن آزر خرج في يوم عيد لهم، فبدءوا ببيت الأصنام، فدخلوا، فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم، وذهب معهم إبراهيم، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه، وقال:
إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا، ثم نادى في آخرهم وقد بقي ضعفاء الناس حيث قال:
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ، فسمع قوله الضعفاء، فرجع إبراهيم إلى بيت الأصنام،
فَجَعَلَهُمْ، أي الأصنام، جُذاذاً أي قطعا إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لم يكسره، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ أي إلى مقالة إبراهيم يَرْجِعُونَ (٥٨). فيبكتهم، فيعدلون عن الباطل، أي أن إبراهيم عليه السلام لما دخل بيت الأصنام، وجد قبالة الباب صنما عظيما وإلى جنبه أصغر منه، وهكذا كل صنم أصغر من الذي يليه، وكانوا وضعوا عند الأصنام طعاما يأكلون منه إذا رجعوا من عيدهم إليهم، فقال لهم إبراهيم: ألا تأكلون؟ فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلّا الكبير، ثم علّق الفأس في عنقه. قالُوا حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا: مَنْ فَعَلَ هذا أي التكسير، بِآلِهَتِنا إِنَّهُ أي من فعل، لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩). إما لجراءته على إهانة الآلهة، أو لإفراطه في الكسر، أو لتعريض نفسه للهلكة. فإنهم كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تماثيل الكواكب، وأنها طلسمات موضوعة، بحيث إن كل من عبدها انتفع بها، وكل من استخف بها ناله منها ضرر شديد. قالُوا أي الذين سمعوا حلف إبراهيم وأخبروا أكابرهم: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ أي يعيب الأصنام ويسبها فلعلّه هو الذي فعل بها هذا الفعل، يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) أي يطلق عليه هذا الاسم وهذه صفة ثانية ل «فتى».
قالُوا أي فيما بينهم، والقائل لذلك القول هو النمروذ:
فَأْتُوا بِهِ، أي بإبراهيم عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ، أي حال كونه ظاهرا للناس، لَعَلَّهُمْ أي بعض الناس، يَشْهَدُونَ (٦١) عليه بفعله فكل حاكم يحكم على جماعة بالجناية من غير بينة، أسوأ حالا، فلا يحكم بعض الكفار على أهل الجناية إلا بحضور عدول قالُوا أي قال له نمروذ بعد إتيانه أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا أي الكسر بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) ؟ قالَ إبراهيم
متهكما بهم وملزما بالحجة: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، أي الذي الفأس على عنقه، وهو مشير إلى الذي لم يكسره، وسلك عليه السلام مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم، فهذا يستلزم نفي فعل الصنم الكبير للكسر وإثباته لنفسه عليه السلام، وهو إشارة لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء، والتضليل، إذ القاعدة أنه إذا دار فعل بين قادر عليه، وعاجز عنه، وأثبت للعاجز بطريق التهكم به، لزم منه