و «إستبرق» بالخفض وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وهذا معطوف على يطوف عليهم، فإن حلي أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم، وأيضا إن الطباع مختلفة فرب
إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب. وقيل: إنما تكون الأسورة من الفضة للولدان الذين هم الخدم، وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) أي يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرد لمطالعة جماله، ملتذا بلقائه، باقيا ببقائه، وهي غاية منازل الصديقين، ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار.
وقال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش، وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى، إِنَّ هذا أي الذي ذكر من الطعام والشراب واللباس كانَ لَكُمْ جَزاءً أي ثوابا من الله بمقابلة أعمالكم الحسنة. وهذا إخبار من الله تعالى لعباده في الدنيا فكأن الله تعالى بيّن ثواب أهل الجنة إن هذا كان في حكمي جزاء لكم يا معشر عبادي لكم خلقتها ولأجلكم أعددتها.
وقال ابن عباس: المعنى: إنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها ومشاهدتهم لنعيمها ليزداد سرورهم: إن هذا كان لكم جزاء، وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢) أي مرضيا، وكان الله راضيا عنهم بالقليل من الطاعات، ومعطيهم عليه ثوابا كثيرا، ومنتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه، فقوله: إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً إشارة إلى الأمر الذي تصير النفس به راضية من ربه. وقوله: وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً إشارة إلى كون النفس مرضية لربه. وهذه الحالة أعلى الدرجات وآخر المقامات، ولذلك وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (٢٣) أي متفرقا آية وآيتين، وسورة وهذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ في تأخير الأذان في القتال أو في أداء الرسالة وتحمل المشاق الناشئة من ذلك، وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أي مقدما على المعاصي، أيّ معصية كانت، أَوْ كَفُوراً (٢٤) أي جاحدا للنعمة، ف «آثم» هو الوليد بن المغيرة، و «الكفور» هو عتبة بن ربيعة، كما قاله القفال وغيره، واختاره الرازي. يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك بنتي وأسوقها من غير مهر فإني من أجمل قريش ولدا. وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فإني من أكثرهم مالا وأرجع عن هذا الأمر، أي عن ذكر النبوة، فقرأ عليهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١٣]. فانصرفا عنه وقال أحدهما: ظنت أن الكعبة ستقع علي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٢٥) أي صل الفجر والظهر والعصر، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي وبعض الليل فصل لربك صلاة المغرب والعشاء، وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (٢٦) أي صل له صلاة التهجد في جزء من ليل طويل. قال بعضهم: كان