البحر، فإن غرق واحد خير من أن تغرق السفينة، فاقترعوا ثلاث مرات، فوقعت القرعة فيها على يونس عليه السلام، فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق، وألقى نفسه في البحر، فجاء حوت فابتعله، فأوحى الله تعالى إلى ذلك الحوت لا تأكل له لحما ولا تهشم له عظما فإنه ليس رزقا لك، وإنما جعلتك له سجنا فَنادى فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات بطن الحوت، والبحر، والليل، وقيل: ابتلع حوته حوت آخر، فحصل في ظلمتي بطن الحوتين، وظلمة البحر والليل: أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه ف «أن» مخففة من «أن» المشددة أو بمعنى أي سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) بفراري من قومي بغير إذنك فكان ذلك ظلما، فعوقب على ترك الأفضل الذي هو المكث فيهم صابرا على أذاهم فإنه خرج لا على تعمّد المعصية، بل لظنه أن خروجه موسّع، يجوز أن يقدّم ويؤخّر. فقد وصف يونس عليه السلام ربه، بكمال الربوبية. ووصف نفسه بضعف البشرية، والنقص في أداء حق الربوبية وهذا القدر يكفي في السؤال ولذا قال تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه.
وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مكروب يدعو بدعوة ذي النون في بطن الحوت إلا استجيب له»
. وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ بسبب كونه في بطن خطيئته، فألقاه الحوت في الساحل من يومه أو بعد ثلاثة أيام، وَكَذلِكَ، أي كما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) من كربهم إذا استغاثوا بنا داعين بهذا الدعاء. وَزَكَرِيَّا، أي واذكر خبره إِذْ نادى رَبَّهُ بقوله: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا بلا ولد يرثني إرث نبوّة وعلم، وحكمة، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩). أثنى عليه السلام على ربه لأنه ينكشف عن علمه أن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى. فإنه تعالى الباقي بعد فناء الخلق. فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، نبيا حكيما عظيما وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ، للولادة بعد انتهائها إلى اليأس منها بحكم العادة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
كان سن زكريا مائة، وسن زوجته تسعا وتسعين إِنَّهُمْ أي زكريا وولده وأهله، كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي في طاعة الله تعالى، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي يفزعون إلينا رغبة في ثوابنا، ورهبة من عقابنا، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) أي خائفين متواضعين في عبادتهم، حذرين عن الانبساط في الأمور.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي واذكر خبر مريم التي أحصنت فرجها إحصانا كليّا، من أن يصل إليه أحد بحلال أو حرام جميعا. فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا، أي فنفخنا الروح في عيسى فيها، أي أحييناه في جوفها، أي أجريناه فيه إجراء الهواء بالنفخ من جهة روحنا جبريل، وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١).
أما آيات مريم فظهور الحبل فيها لا من ذكر، ورزقها كان يأتيها به الملائكة من الجنة، وأنها لم تلتقم ثديا يوما قط. وتكلّمت في صباها، كما تكلّم عيسى في صباه، فجعلهما الله آية للناس، فيستدلّون بما خصا به من الآيات على قدرته تعالى وحكمته. إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي