ولا غافلين من أعمالهم ومصالحهم. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم.
قال الرازي: إن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار منافعهم، ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم ينزلها على قدر الحاجة إليها اه-. وفي الأحاديث: «إن الماء كان موجودا قبل خلق السموات والأرض، ثم جعل الله منه في السماء ماء وفي الأرض ماء» «١». فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه قارا فيها بعضه في بطنها وبعضه على ظهرها كالأنهار والغدران والعيون وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بالإفساد أو بالتصعيد أو بالتغوير في الأرض لَقادِرُونَ (١٨) كما كنا قادرين على إنزاله فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ. وإنما ذكرهما الله تعالى لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الإدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا لَكُمْ فِيها أي البساتين فَواكِهُ كَثِيرَةٌ من ألوان شتى وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) أي ترزقون، وتحصلون معايشكم أي تتنعمون بفوائد البستان وتتعيشون بها وَشَجَرَةً أي وأنشأنا لكم زيتونة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل نودي منه موسى عليه السلام بين مصر وأيلة. وقيل: في فلسطين. ومن قرأ بفتح السين منع الصرف لألف التأنيث الممدودة.
ومن قرأ بكسرها وهو نافع وابن كثير، وأبو عمرو فقد منع الصرف للعلمية والعجمة، فإن الهمزة ليست للتأنيث بل للإلحاق بقرطاس. قيل: إن الزيتونة أول شجرة نبتت بعد الطوفان. تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي تخرج الدهن.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «تنبت» بضم التاء وكسر الباء، أي تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) معطوف على الدهن أي تنبت الشجرة بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يغمس الخبز فيه للائتدام
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ أي الإبل لَعِبْرَةً تستدلون بأحوالها على تعظيم قدرة الله تعالى وسابغ رحمته وتشكرونه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها أي تنتفعون بلبنها في الشرب وغيره. ووجه الاعتبار في اللبن أنه يجتمع في الضرع ويتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى فيستحيل إلى طهارة ولون وطعم موافق للشهوة ويصير غذاء، فهذا اللبن الذي يخرج من بطونها إلى ضرعها تجده شرابا طيبا نافعا للبدن، وإذا ذبحتها لم تجد له أثرا، فمن استدل بذلك على قدرة الله تعالى وحكمته كان ذلك معدودا من النعم الدينية ومن انتفع به كان معدودا من النعم الدنيوية وَلَكُمْ فِيها أي الأنعام. مَنافِعُ كَثِيرَةٌ كالانتفاع بثمنها وأجرتها وَمِنْها أي الأنعام بعد ذبحها تَأْكُلُونَ (٢١) فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها عَلَيْها
أي الأنعام عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
(٢٢) فإن الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر

(١) رواه العجلوني في كشف الخفاء (١: ٣١٢)، بما معناه.


الصفحة التالية
Icon