الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية. أما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى، فكان الاشتغال بذلك أولى. وقد وصف عيسى عليه السلام نفسه بصفات ثمانية: أولها:
العبودية، فاعترف بها لئلا يتخذوه إلها. وآخرها: تأمين الله له في أخوف المقامات، وكل هذه الصفات تقتضي تبرئة أمه. آتانِيَ الْكِتابَ، أي علمني التوراة والإنجيل في بطن أمي، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) بعد الخروج من بطن أمي،
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أي نفاعا معلما للخير، أَيْنَ ما كُنْتُ، أي في أي مكان كنت.
روى الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلمت مريم عيسى إلى الكتاب، فقالت للمعلم: أدفعه إليك على أن لا تضربه، فقال له المعلم: اكتب. فقال: أيّ شيء أكتب؟ فقال: اكتب أبجد.
فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه، فقال: يا مؤدب لا تضربني، إن كنت لا تدري فاسألني فإني أعلمك الألف من آلاء الله، والباء من بهاء الله، والجيم من جمال الله، والدال من أداء الحق إلى الله»

. وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بإقامة العبودية وتطهير النفس عن الصفات الذميمة. ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)، في الدنيا ليكون ذلك حجة على من ادعى أنه عليه السلام إله، لأنه لا شك في أن من يعبد إلها ليس بإله، والله تعالى صيّره حين انفصل عن أمه عاقلا. وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي وكلفني برا بأمي، وهذا إشارة إلى غير تنزيه أمه عن الزنا، إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً، أي متعاظما. شَقِيًّا (٣٢) أي عاصيا لله، عنيدا له لفرط التكبر، بل جعلني متواضعا. وكان من تواضعه أنه كان يأكل ورق الشجر، ويجلس على التراب، ولم يتخذ له مسكنا. وروي أن عيسى عليه السلام، قال: قلبي لين وأنا صغير في نفسي. وَالسَّلامُ عَلَيَّ أي الأمان من الله علي، يَوْمَ وُلِدْتُ، أي حين ولدت من لمزة الشيطان، وَيَوْمَ أَمُوتُ، أي حين أموت من ضغطة القبر، وَيَوْمَ أُبْعَثُ من القبر، حَيًّا (٣٣). وإنما خصّ هذه المواضع لكونها أخوف من غيرها. ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ، أي عيسى بن مريم كلمة الله، فالحق اسم الله، أو المعنى خبر عيسى ابن مريم خبر الحق، فعيسى عطف بيان.
وقرأ عاصم وابن عامر قول الحق بالنصب على المدح إن فسّر بكلمة الله فحينئذ الوقف في مريم وقف كاف وإن فسّر بالقول الصدق، كان مصدرا مؤكدا لقال: إني عبد الله، ف «عيسى» خبر المبتدأ وعلى قراءة النصب كان اسم الإشارة راجعا لمن بينت نعوته الجليلة. الَّذِي فِيهِ، أي في عيسى يَمْتَرُونَ (٣٤)، أي يتنازعون.
فيقول اليهود: هو ساحر. ويقول بعض النصارى: هو ابن الله. ويقول بعضهم: هو الله.
ويقول: بعضهم هو شريكه. ما كانَ لِلَّهِ، أي ما صحّ له تعالى، أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لأنه يلتزم من اتخاذه ولدا الحاجة، وهو نقص، سُبْحانَهُ، أي تنزه الله عن ذلك، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥). أي إذا أراد الله أن يحدث أمرا من الأمور، فإنما يريده ويعلق قدرته به، فيكون


الصفحة التالية
Icon