﴿١٠٣ - ١٧١﴾ ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾.
إلى آخر قصته (١).
أي: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى الكليم، الإمام العظيم، والرسول الكريم، إلى قوم عتاة جبابرة، وهم فرعون وملؤه، من أشرافهم وكبرائهم، فأراهم من آيات الله العظيمة ما لم يشاهد له نظير ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ بأن لم ينقادوا لحقها الذي من لم ينقد له فهو ظالم، بل استكبروا عنها. ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ كيف أهلكهم الله، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة، بئس الرفد المرفود، وهذا مجمل فصله بقوله:
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ حين جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان.
﴿يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: إني رسول من مرسل عظيم، وهو رب العالمين، الشامل للعالم العلوي والسفلي، مربي جميع خلقه بأنواع التدابير الإلهية، التي من جملتها أنه لا يتركهم سدى، بل يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وهو الذي لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، ويدعي أنه أرسله ولم يرسله.
فإذا كان هذا شأنه، وأنا قد اختارني واصطفاني لرسالته، فحقيق علي أن لا أكذب عليه، ولا أقول عليه إلا الحق. فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ عزيز مقتدر.
فهذا موجب لأن ينقادوا له ويتبعوه، خصوصا وقد جاءهم ببينة من الله واضحة على صحة ما جاء به من الحق، فوجب عليهم أن يعملوا بمقصود رسالته، ولها مقصودان عظيمان. إيمانهم به، واتباعهم له، وإرسال بني إسرائيل الشعب الذي فضله الله على العالمين، أولاد الأنبياء، وسلسلة يعقوب عليه السلام، الذي موسى عليه الصلاة والسلام واحد منهم.
فقال له فرعون: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
﴿فَأَلْقَى﴾ موسى ﴿عَصَاهُ﴾ في الأرض ﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾ أي: حية ظاهرة تسعى، وهم يشاهدونها.
﴿وَنزعَ يَدَهُ﴾ من جيبه ﴿فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾ من غير سوء، فهاتان آيتان كبيرتان دالتان على صحة ما جاء به موسى وصدقه، وأنه رسول رب العالمين، ولكن الذين لا يؤمنون لو جاءتهم كل آية لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
فلهذا ﴿قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ﴾ حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، وطلبوا لها التأويلات الفاسدة: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ أي: ماهر في سحره.
ثم خوفوا ضعفاء الأحلام وسفهاء العقول، بأنه ﴿يُرِيدُ﴾ موسى بفعله هذا ﴿أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ﴾ أي: يريد أن يجليكم (١) عن أوطانكم ﴿فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ أي: إنهم تشاوروا فيما بينهم ما يفعلون بموسى، وما يندفع به ضرره بزعمهم عنهم، فإن ما جاء به إن لم يقابل بما يبطله ويدحضه، وإلا دخل في عقول أكثر الناس.
فحينئذ انعقد رأيهم إلى أن قالوا لفرعون: ﴿أَرْجِهْ وَأَخَاهُ﴾ أي: احبسهما وأمهلهما، وابعث في المدائن أناسا يحشرون أهل المملكة ويأتون بكل سحار عليم، أي: يجيئون بالسحرة المهرة، ليقابلوا ما جاء به موسى، فقالوا: يا موسى اجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى.
﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾.
وقال هنا: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ﴾ طالبين منه الجزاء إن غلبوا فـ ﴿قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ﴾ ؟
فـ ﴿قَالَ﴾ فرعون: ﴿نَعَمْ﴾ لكم أجر ﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ فوعدهم الأجر والتقريب، وعلو المنزلة عنده، ليجتهدوا ويبذلوا وسعهم وطاقتهم في مغالبة موسى.
فلما حضروا مع موسى بحضرة الخلق العظيم ﴿قَالُوا﴾ على وجه التألي وعدم -[٣٠٠]- المبالاة بما جاء به موسى: ﴿يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾ ما معك ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾.
فـ ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿أَلْقُوا﴾ لأجل أن يرى الناس ما معهم وما مع موسى.
﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾ حبالهم وعصيهم، إذا هي من سحرهم كأنها حيات تسعى، فـ ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ لم يوجد له نظير من السحر.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ فَأَلْقَاهَا ﴿فَإِذَا هِيَ﴾ حية تسعى، فـ ﴿تَلْقَفُ﴾ جميع ﴿مَا يَأْفِكُونَ﴾ أي: يكذبون به ويموهون.
﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾ أي: تبين وظهر، واستعلن في ذلك المجمع، ﴿وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ﴾ أي: في ذلك المقام ﴿وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾ أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
وأعظم من تبين له الحق العظيم أهل الصنف والسحر، الذين يعرفون من أنواع السحر وجزئياته، ما لا يعرفه غيرهم، فعرفوا أن هذه آية عظيمة من آيات الله لا يدان لأحد بها.
﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾
أي: وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.