﴿١٦٦﴾ ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ﴾ أي: قسوا فلم يلينوا، ولا اتعظوا، ﴿قُلْنَا لَهُمْ﴾ قولا قدريا: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ فانقلبوا بإذن الله قردة، وأبعدهم الله من رحمته، ثم ذكر ضرب الذلة والصغار على من بقي منهم فقال:
﴿١٦٧﴾ ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ﴾ أي: أعلم إعلاما صريحا: ﴿لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ أي: يهينهم، ويذلهم.
﴿إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ لمن عصاه، حتى إنه يعجل له العقوبة في الدنيا. ﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ لمن تاب إليه وأناب، يغفر له الذنوب، ويستر عليه العيوب، ويرحمه بأن يتقبل منه الطاعات، ويثيبه عليها بأنواع المثوبات، وقد فعل الله بهم ما أوعدهم به، فلا يزالون في ذل وإهانة، تحت حكم غيرهم، لا تقوم لهم راية، ولا ينصر لهم عَلَمٌ.
﴿١٦٨ - ١٧٠﴾ ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا﴾ أي: فرقناهم ومزقناهم في الأرض بعد ما كانوا مجتمعين، ﴿مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ﴾ القائمون بحقوق الله، وحقوق عباده، ﴿وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما ظالمون لأنفسهم، ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ﴾ على عادتنا وسنتنا، ﴿بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ﴾ أي: بالعسر واليسر.
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عما هم عليه مقيمون من الردى، يراجعون ما خلقوا له من الهدى، فلم يزالوا بين صالح وطالح ومقتصد، حتى خلف من بعدهم خلف. زاد شرهم ﴿وَرِثُوا﴾ بعدهم ﴿الْكِتَابُ﴾ وصار المرجع فيه إليهم، وصاروا يتصرفون فيه بأهوائهم، وتبذل لهم الأموال، ليفتوا ويحكموا، بغير الحق، وفشت فيهم الرشوة.
﴿يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ﴾ مقرين بأنه ذنب وأنهم ظلمة: ﴿سَيُغْفَرُ لَنَا﴾ وهذا قول خال من الحقيقة، فإنه ليس استغفارا وطلبا للمغفرة على الحقيقة.
فلو كان ذلك لندموا على ما فعلوا، وعزموا على أن لا يعودوا، ولكنهم - إذا أتاهم عرض آخر، ورشوة أخرى - يأخذوه.
فاشتروا بآيات الله ثمنا قليلا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال الله [تعالى] في الإنكار عليهم، وبيان جراءتهم: ﴿أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ﴾ فما بالهم يقولون عليه غير الحق اتباعا لأهوائهم، وميلا مع مطامعهم.
﴿و﴾ الحال أنهم قد ﴿دَرَسُوا مَا فِيهِ﴾ فليس عليهم فيه إشكال، بل قد أَتَوْا أمرهم متعمدين، وكانوا في أمرهم مستبصرين، وهذا أعظم للذنب، وأشد للوم، وأشنع للعقوبة، وهذا من نقص عقولهم، وسفاهة رأيهم، بإيثار الحياة الدنيا على الآخرة، ولهذا قال: ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ ما حرم الله عليهم، من المآكل التي تصاب، وتؤكل رشوة على الحكم بغير ما أنزل الله، وغير ذلك من أنواع المحرمات.
﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أي: أفلا يكون لكم عقول توازن بين ما ينبغي إيثاره، وما ينبغي الإيثار عليه، وما هو أولى بالسعي إليه، والتقديم له على غيره. فخاصية العقل النظر للعواقب.
وأما من نظر إلى عاجل طفيف منقطع، يفوت نعيما عظيما باقيا فأنى له العقل والرأي؟
وإنما العقلاء حقيقة من وصفهم الله بقوله ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ﴾ -[٣٠٨]- أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم.
ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة.
ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات.
ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: ﴿إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم.
وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم.