تفسير سورة يونس
مكية
﴿١ - ٢﴾ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾.
يقول تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ وهو هذا القرآن، المشتمل على الحكمة والأحكام، الدالة آياته على الحقائق الإيمانية والأوامر والنواهي الشرعية، الذي على جميع الأمة تلقيه بالرضا والقبول والانقياد.
ومع هذا فأعرض أكثرهم، فهم لا يعلمون، فتعجبوا ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ عذاب الله، وخوفهم نقم الله، وذكرهم بآيات الله.
﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيمانا صادقا ﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أي: لهم جزاء موفور (١) وثواب مذخور عند ربهم بما قدموه وأسلفوه من الأعمال الصالحة الصادقة.
فتعجب الكافرون من هذا الرجل العظيم تعجبا حملهم على الكفر به، فـ ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ﴾ عنه: ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ أي: بين السحر، لا يخفى بزعمهم على أحد، وهذا من سفههم وعنادهم، فإنهم تعجبوا من أمر ليس مما يتعجب منه ويستغرب، وإنما يتعجب من جهالتهم وعدم معرفتهم بمصالحهم.
كيف لم يؤمنوا بهذا الرسول الكريم، الذي بعثه الله من أنفسهم، يعرفونه حق المعرفة، فردوا دعوته، وحرصوا على إبطال دينه، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

(١) كذا في ب وفي أ: موفر.

﴿٣ - ٤﴾ ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾.
يقول تعالى مبينا لربوبيته وإلهيته وعظمته: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ مع أنه قادر على خلقها في لحظة واحدة، ولكن لما له في ذلك من الحكمة الإلهية، ولأنه رفيق في أفعاله.
ومن جملة حكمته فيها، أنه خلقها بالحق وللحق، ليعرف بأسمائه وصفاته ويفرد بالعبادة.
﴿ثُمَّ﴾ بعد خلق السماوات والأرض ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق بعظمته.
﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه (١) خاضعون لعظمته وسلطانه.
﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ فلا يقدم أحد منهم على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق، حتى يأذن الله ولا يأذن، إلا لمن ارتضى، ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الذي هذا شأنه ﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ أي: هو الله الذي له وصف الإلهية الجامعة لصفات الكمال، ووصف الربوبية الجامع لصفات الأفعال.
﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ أي: أفردوه بجميع ما تقدرون عليه من أنواع العبودية، ﴿أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ الأدلة الدالة على أنه وحده المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام.
فلما ذكر حكمه القدري وهو التدبير العام، وحكمه الديني وهو -[٣٥٨]- شرعه، الذي مضمونه ومقصوده عبادته وحده لا شريك له، ذكر الحكم الجزائي، وهو مجازاته على الأعمال بعد الموت، فقال: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾ أي: سيجمعكم بعد موتكم، لميقات يوم معلوم.
﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُّمَ يُعِيدُهُ﴾ فالقادر على ابتداء الخلق قادر على إعادته، والذي يرى ابتداءه بالخلق، ثم ينكر إعادته للخلق، فهو فاقد العقل منكر لأحد المثلين مع إثبات ما هو أولى منه، فهذا دليل عقلي واضح على المعاد. وقد ذكر الدليل النقلي فقال: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ أي: وعده صادق لا بد من إتمامه ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بقلوبهم بما أمرهم الله بالإيمان به.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بجوارحهم، من واجبات، ومستحبات، ﴿بِالْقِسْطِ﴾ أي: بإيمانهم وأعمالهم، جزاء قد بينه لعباده، وأخبر أنه لا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بآيات الله وكذبوا رسل الله.
﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾ أي: ماء حار، يشوي الوجوه، ويقطع الأمعاء. ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ من سائر أصناف العذاب ﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ أي: بسبب كفرهم وظلمهم، وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
(١) في ب: لعزته.


الصفحة التالية
Icon