﴿٨٥﴾ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾.
وهذا متضمن لردع من يسأل المسائل، التي لا يقصد بها إلا التعنت والتعجيز، ويدع السؤال عن المهم، فيسألون عن الروح التي هي من الأمور الخفية، التي لا يتقن وصفها وكيفيتها كل أحد، وهم قاصرون في العلم الذي يحتاج إليه العباد.
ولهذا أمر الله رسوله أن يجيب سؤالهم بقوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ أي: من جملة مخلوقاته، التي أمرها أن تكون فكانت، فليس في السؤال عنها كبير فائدة، مع عدم علمكم بغيرها.
وفي هذه الآية دليل على أن المسؤول إذا سئل عن أمر، الأولى بالسائل غيره أن يعرض عن جوابه، ويدله على ما يحتاج إليه، ويرشده إلى ما ينفعه.
﴿٨٦-٨٧﴾ ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا﴾.
﴿إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾.
يخبر تعالى أن القرآن والوحي الذي أوحاه إلى رسوله، رحمة منه عليه وعلى عباده، وهو أكبر النعم على الإطلاق على رسوله، فإن فضل الله عليه كبير، لا يقادر قدره.
فالذي تفضل به عليك، قادر على أن يذهب به، ثم لا تجد رادًا يرده، ولا وكيلا بتوجه عند الله فيه.
فلتغتبط به، وتقر به عينك، ولا يحزنك تكذيب المكذبين، واستهزاء الضالين، فإنهم عرضت عليهم أجل النعم، فردوها لهوانهم على الله وخذلانه لهم.
﴿٨٨﴾ ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾.
وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع، على صحة ما جاء به الرسول وصدقه، حيث تحدى الله الإنس والجن أن يأتوا بمثله، وأخبر أنهم لا يأتون بمثله، ولو تعاونوا كلهم على ذلك لم يقدروا عليه.
ووقع كما أخبر الله، فإن دواعي أعدائه المكذبين به، متوفرة على رد ما جاء به بأي: وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة، فلو كان عندهم أدنى تأهل وتمكن من ذلك لفعلوه.
فعلم بذلك، أنهم أذعنوا غاية الإذعان، طوعًا وكرهًا، وعجزوا عن معارضته.
وكيف يقدر المخلوق من تراب، الناقص من جميع الوجوه، الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال إلا من ربه، أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات، المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق، والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادًا، والأشجار كلها أقلام، لنفذ المداد، وفنيت الأقلام، ولم تنفد كلمات الله.
فكما أنه ليس أحد من المخلوقين مماثلا لله في أوصافه فكلامه من أوصافه، التي لا يماثله فيها أحد، فليس كمثله شيء، في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله تبارك وتعالى.
فتبًا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق، وزعم أن محمدًا ﷺ افتراه على الله واختلقه من نفسه.
﴿٨٩-٩٦﴾ ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾.
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ أي: نوعنا فيه المواعظ والأمثال، وثنينا فيه المعاني التي يضطر إليها العباد، لأجل أن يتذكروا ويتقوا، فلم يتذكر إلا القليل منهم، الذين سبقت لهم من الله سابقة السعادة، وأعانهم الله بتوفيقه، وأما أكثر الناس فأبوا إلا كفورًا لهذه النعمة التي هي أكبر من -[٤٦٧]- جميع النعم، وجعلوا يتعنتون عليه] باقتراح [ (١) آيات غير آياته، يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة.
فيقولون لرسول الله ﷺ الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ أي: أنهارًا جارية.
﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ﴾ فتستغني بها عن المشي في الأسواق والذهاب والمجيء.
﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ أي: قطعًا من العذاب، ﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا﴾ أي: جميعًا، أو مقابلة ومعاينة، يشهدون لك بما جئت به.
﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾ أي: مزخرف بالذهب وغيره ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ﴾ رقيًا حسيًا، ﴿و﴾ ومع هذا فـ ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾
ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات؛ وكلام أسفه الناس وأظلمهم، المتضمنة لرد الحق وسوء الأدب مع الله، وأن الرسول ﷺ هو الذي يأتي بالآيات، أمره الله أن ينزهه فقال: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾ عما تقولون علوًا كبيرًا، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة، وآرائهم الضالة. ﴿هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا﴾ ليس بيده شيء من الأمر.
وهذا السبب الذي منع أكثر الناس من الإيمان، حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم بشرًا.
وهذا من رحمته بهم، أن أرسل إليهم بشرًا منهم، فإنهم لا يطيقون التلقي من الملائكة.
فلو ﴿كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ﴾ يثبتون على رؤية الملائكة والتلقي عنهم؛ ﴿لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا﴾ ليمكنهم التلقي عنه.
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ فمن شهادته لرسوله ما أيده به من المعجزات، وما أنزل عليه من الآيات، ونصره على من عاداه وناوأه.
فلو تقول عليه بعض الأقاويل، لأخذ منه باليمين، ثم لقطع منه الوتين، فإنه خبير بصير، لا تخفى عليه من أحوال العباد خافية.

(١) زيادة يقتضيها السياق.


الصفحة التالية
Icon