﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
فيقال لهم - توبيخا ولوما -: ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تدعون بها، لتؤمنوا، وتعرض عليكم لتنظروا، ﴿فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ ظلما منكم وعنادا، وهي آيات بينات، دالات على الحق والباطل، مبينات للمحق والمبطل، فحينئذ أقروا بظلمهم، حيث لا ينفع الإقرار ﴿قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا﴾ أي: غلبت علينا الشقاوة الناشئة عن الظلم والإعراض عن الحق، والإقبال على ما يضر، وترك ما ينفع، ﴿وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ﴾ في عملهم، وإن كانوا يدرون أنهم ظالمون، أي: فعلنا في الدنيا فعل التائه، الضال السفيه، كما قالوا في الآية الأخرى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ وهم كاذبون في وعدهم هذا، فإنهم كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ ولم يبق الله لهم حجة، بل قطع أعذارهم، وعمرهم في الدنيا، ما يتذكر فيه [من] المتذكر، ويرتدع فيه المجرم، فقال الله جوابا لسؤالهم: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ﴾ وهذا القول - نسأله تعالى العافية- أعظم قول على الإطلاق يسمعه المجرمون في التخييب، والتوبيخ، والذل، والخسار، والتأييس من كل خير، والبشرى بكل شر، وهذا الكلام والغضب من الرب الرحيم، أشد عليهم وأبلغ في نكايتهم من عذاب الجحيم، ثم ذكر الحال التي أوصلتهم إلى العذاب، وقطعت عنهم الرحمة فقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم.
فهؤلاء سادات الناس وفضلائهم، ﴿فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ﴾ أيها الكفرة الأنذال ناقصو العقول والأحلام ﴿سِخْرِيًّا﴾ تهزءون بهم وتحتقرونهم، حتى اشتغلتم بذلك السفه. ﴿حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ﴾ وهذا الذي أوجب لهم نسيان الذكر، اشتغالهم بالاستهزاء بهم، كما أن نسيانهم للذكر، يحثهم على الاستهزاء، فكل من الأمرين يمد الآخر، فهل فوق هذه الجراءة جراءة؟!
﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا﴾ على طاعتي، وعلى أذاكم، حتى وصلوا إلي. ﴿أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ بالنعيم المقيم، والنجاة من الجحيم، كما قال في الآية الأخرى: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ الآيات.
﴿قَالَ﴾ لهم على وجه اللوم، وأنهم سفهاء الأحلام، حيث اكتسبوا في هذه المدة اليسيرة كل شر أوصلهم إلى غضبه وعقوبته، ولم يكتسبوا ما اكتسبه المؤمنون [من] الخير، الذي يوصلهم إلى السعادة الدائمة ورضوان ربهم.
﴿كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ كلامهم هذا مبني على استقصارهم جدا لمدة مكثهم في الدنيا وأفاد ذلك لكنه لا يفيد مقداره ولا يعينه فلهذا قالوا ﴿فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾ أي الضابطين لعدده وأما هم ففي شغل شاغل وعذاب مذهل عن معرفة عدده فقال لهم ﴿إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا﴾ سواء عينتم عدده أم لا ﴿لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
﴿١١٥ - ١١٦﴾ ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.
أي: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ﴾ أيها الخلق ﴿أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾ أي: سدى وباطلا تأكلون وتشربون وتمرحون، وتتمتعون بلذات الدنيا، ونترككم لا نأمركم، و [لا] ننهاكم ولا نثيبكم، ولا نعاقبكم؟ ولهذا قال: ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ لا يخطر هذا ببالكم، ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ﴾ أي: تعاظم وانتفع عن هذا الظن الباطل، الذي يرجع إلى القدح في حكمته. ﴿الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ فكونه ملكا للخلق كلهم حقا، في صدقه، ووعده، ووعيده، مألوها معبودا، لما له من الكمال ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الكريم﴾ فما دونه من باب أولى، يمنع أن يخلقكم عبثا.
﴿١١٧ - ١١٨﴾ ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾.
أي: ومن دعا -[٥٦١]- مع الله آلهة غيره، بلا بينة من أمره ولا برهان يدل على ما ذهب إليه، وهذا قيد ملازم، فكل من دعا غير الله، فليس له برهان على ذلك، بل دلت البراهين على بطلان ما ذهب إليه، فأعرض عنها ظلما وعنادا، فهذا سيقدم على ربه، فيجازيه بأعماله، ولا ينيله من الفلاح شيئا، لأنه كافر، ﴿إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ فكفرهم منعهم من الفلاح.
﴿وَقُلْ﴾ داعيا لربك مخلصا له الدين ﴿رَبِّ اغْفِرْ﴾ لنا حتى تنجينا من المكروه، وارحمنا، لتوصلنا برحمتك إلى كل خير ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ فكل راحم للعبد، فالله خير له منه، أرحم بعبده من الوالدة بولدها، وأرحم به من نفسه. تم تفسير سورة المؤمنين، من فضل الله وإحسانه.