﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ﴾ أي رأى كل منهما صاحبه، ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى﴾ شاكين لموسى وحزنين ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ فـ ﴿قَالَ﴾ موسى، مثبتا لهم، ومخبرا لهم بوعد ربه الصادق: ﴿كُلا﴾ أي: ليس الأمر كما ذكرتم، أنكم مدركون، ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ لما فيه نجاتي ونجاتكم.
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ﴾ فضربه ﴿فَانْفَلَقَ﴾ اثني عشر طريقا ﴿فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ﴾ أي: الجبل ﴿الْعَظِيمِ﴾ فدخله موسى وقومه.
﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ﴾ في ذلك المكان ﴿الآخَرِينَ﴾ أي فرعون وقومه، قربناهم، وأدخلناهم في ذلك الطريق، الذي سلك منه موسى وقومه.
﴿وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ﴾ استكملوا خارجين، لم يتخلف منهم أحد.
﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ﴾ لم يتخلف منهم عن الغرق أحد.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ عظيمة، على صدق ما جاء به موسى عليه السلام، وبطلان ما عليه فرعون وقومه، ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مع هذه الآيات المقتضية للإيمان، لفساد قلوبكم.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ بعزته أهلك الكافرين المكذبين، وبرحمته نجى موسى، ومن معه أجمعين.
﴿٦٩ - ١٠٤﴾ ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ﴾
إلى آخر هذه القصة ﴿وإن ربك لهو العزيز الرحيم﴾
أي: واتل يا محمد على الناس، نبأ إبراهيم الخليل، وخبره الجليل، في هذه الحالة بخصوصها، وإلا فله أنباء كثيرة، ولكن من أعجب أنبائه، وأفضلها، هذا النبأ المتضمن لرسالته، ودعوته قومه، ومحاجته إياهم، وإبطاله ما هم عليه، ولذلك قيده بالظرف فقال: ﴿إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا﴾ متبجحين بعبادتهم: ﴿نَعْبُدُ أَصْنَامًا﴾ ننحتها ونعملها بأيدينا. ﴿فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾ أي مقيمين على عبادتها في كثير من أوقاتنا، فقال لهم إبراهيم، مبينا لعدم استحقاقها للعبادة: ﴿هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ﴾ فيستجيبون دعاءكم، ويفرجون كربكم، ويزيلون عنكم كل مكروه؟.
﴿أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ فأقروا أن ذلك كله، غير موجود فيها، فلا تسمع دعاء، ولا تنفع، ولا تضر، ولهذا لما كسرها وقال: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ قالوا له: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾ -[٥٩٣]- أي: هذا أمر متقرر من حالها، لا يقبل الإشكال والشك.
فلجأوا إلى تقليد آبائهم الضالين، فقالوا: ﴿بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ فتبعناهم على ذلك، وسلكنا سبيلهم، وحافظنا على عاداتهم، فقال لهم إبراهيم: أنتم وآباءكم، كلكم خصوم في الأمر، والكلام مع الجميع واحد.
﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي﴾ فليضروني بأدنى شيء من الضرر، وليكيدوني، فلا يقدرون.
﴿إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ هو المنفرد بنعمة الخلق، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية.
ثم خصص منها بعض الضروريات فقال: ﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ فهذا هو وحده المنفرد بذلك، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة، وتترك هذه الأصنام، التي لا تخلق، ولا تهدي، ولا تمرض، ولا تشفي، ولا تطعم ولا تسقي، ولا تميت، ولا تحيي، ولا تنفع عابديها، بكشف الكروب، ولا مغفرة الذنوب.
فهذا دليل قاطع، وحجة باهرة، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها، فدل على اشتراككم في الضلال، وترككم طريق الهدى والرشد. قال الله تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ﴾ الآيات.
ثم دعا عليه السلام ربه فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا﴾ أي: علما كثيرا، أعرف به الأحكام، والحلال والحرام، وأحكم به بين الأنام، ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ من إخوانه الأنبياء والمرسلين.