﴿وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ﴾ أي: الخليقة الأولين، فكما انفرد بخلقكم، وخلق من قبلكم من غير مشارك له في ذلك، فأفردوه بالعبادة والتوحيد، وكما أنعم عليكم بالإيجاد والإمداد بالنعم، فقابلوه بشكره.
قالوا له، مكذبين له، رادين لقوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ فأنت تهذي وتتكلم كلام المسحور، الذي غايته أن لا يؤاخذ به.
﴿وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ فليس فيك فضيلة، اختصصت بها علينا، حتى تدعونا إلى اتباعك، وهذا مثل قول من قبلهم ومن بعدهم، ممن عارضوا الرسل بهذه الشبهة، التي لم يزالوا، يدلون بها ويصولون، ويتفقون عليها، لاتفاقهم على الكفر، وتشابه قلوبهم.
وقد أجابت عنها الرسل بقولهم: ﴿إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده﴾.
﴿وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ وهذا جراءة منهم وظلم، وقول زور، قد انطووا على خلافه، فإنه ما من رسول من الرسل، واجه قومه ودعاهم، وجادلهم وجادلوه، إلا وقد أظهر الله على يديه من الآيات، ما به يتيقنون صدقه وأمانته، خصوصا شعيبا عليه السلام، الذي يسمى خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه، ومجادلتهم بالتي هي أحسن، فإن قومه قد تيقنوا صدقه، وأن ما جاء به حق، ولكن إخبارهم عن ظن كذبه، كذب منهم.
﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ أي: قطع عذاب تستأصلنا. ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ كقول إخوانهم ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أو أنهم طلبوا بعض آيات الاقتراح، التي لا يلزم تتميم مطلوب من سألها.
﴿قَالَ﴾ شعيب عليه السلام: ﴿رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي: نزول العذاب، ووقوع آيات الاقتراح، لست أنا الذي آتي بها وأنزلها بكم، وليس علي إلا تبليغكم ونصحكم وقد فعلت، وإنما الذي يأتي بها ربي، العالم بأعمالكم وأحوالكم، الذي يجازيكم ويحاسبكم.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي: صار التكذيب لهم، وصفا والكفر لهم ديدنا، بحيث لا تفيدهم الآيات، وليس بهم حيلة إلا نزول العذاب.
﴿فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ أظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها مستلذين، لظلها غير الظليل، فأحرقتهم بالعذاب، فظلوا تحتها خامدين، ولديارهم مفارقين، ولدار الشقاء والعذاب نازلين.
﴿إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لا كرة لهم إلى الدنيا، فيستأنفوا العمل، ولا يفتر عنهم العذاب ساعة، ولا هم ينظرون.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ دالة على صدق شعيب، وصحة ما دعا إليه، وبطلان رد قومه عليه، ﴿وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ مع رؤيتهم الآيات، لأنهم لا زكاء فيهم، ولا خير لديهم ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ الذي امتنع بقدرته، عن إدراك أحد، وقهر كل مخلوق. ﴿الرَّحِيمُ﴾ الذي الرحمة وصفه ومن آثارها، جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، من حين أوجد الله العالم إلى ما لا نهاية له. ومن عزته أن أهلك أعداءه حين كذبوا رسله، ومن رحمته، أن نجى أولياءه ومن اتبعهم من المؤمنين.
﴿١٩٢ - ٢٠٣﴾ ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾.
لما ذكر قصص الأنبياء مع أممهم، وكيف دعوهم، و [ما] (١) ردوا عليهم به; وكيف أهلك الله أعداءهم، وصارت لهم العاقبة.
ذكر هذا الرسول الكريم، والنبي المصطفى العظيم وما جاء به من الكتاب، الذي فيه هداية لأولي الألباب فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فالذي أنزله، فاطر الأرض والسماوات، المربي جميع العالم، العلوي والسفلي، وكما أنه رباهم بهدايتهم لمصالح دنياهم وأبدانهم، فإنه يربيهم أيضا، بهدايتهم لمصالح دينهم وأخراهم، ومن أعظم ما رباهم به، إنزال هذا الكتاب الكريم، الذي -[٥٩٨]- اشتمل على الخير الكثير، والبر الغزير، وفيه من الهداية، لمصالح الدارين، والأخلاق الفاضلة، ما ليس في غيره، وفي قوله: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ من تعظيمه وشدة الاهتمام فيه، من كونه نزل من الله، لا من غيره، مقصودا فيه نفعكم وهدايتكم.
﴿نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ وهو جبريل عليه السلام، الذي هو أفضل الملائكة وأقواهم ﴿الأمِينُ﴾ الذي قد أمن أن يزيد فيه أو ينقص.
﴿عَلَى قَلْبِكَ﴾ يا محمد ﴿لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ تهدي به إلى طريق الرشاد، وتنذر به عن طريق الغي.
﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ﴾ وهو أفضل الألسنة، بلغة من بعث إليهم، وباشر دعوتهم أصلا اللسان البين الواضح. وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم، فإنه أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة، على أفضل الخلق، على أفضل بضعة فيه وهي قلبه، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو: اللسان العربي المبين.
﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ أي: قد بشرت به كتب الأولين وصدقته، وهو لما نزل، طبق ما أخبرت به، صدقها، بل جاء بالحق، وصدق المرسلين.
﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً﴾ على صحته، وأنه من الله ﴿أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الذي قد انتهى إليهم العلم، وصاروا أعلم الناس، وهم أهل الصنف، فإن كل شيء يحصل به اشتباه، يرجع فيه إلى أهل الخبرة والدراية، فيكون قولهم حجة على غيرهم، كما عرف السحرة الذين مهروا في علم السحر، صدق معجزة موسى، وأنه ليس بسحر، فقول الجاهلين بعد هذا، لا يؤبه به.
﴿وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ﴾ الذين لا يفقهون لسانهم، ولا يقدرون على التعبير لهم كما ينبغي.
﴿فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ يقولون: ما نفقه ما يقول، ولا ندري ما يدعو إليه، فليحمدوا ربهم، أن جاءهم على لسان أفصح الخلق، وأقدرهم على التعبير عن المقاصد، بالعبارات الواضحة، وأنصحهم، وليبادروا إلى التصديق به، وتلقيه بالتسليم والقبول، ولكن تكذيبهم له من غير شبهة، إن هو إلا محض الكفر والعناد، وأمر قد توارثته الأمم المكذبة، فلهذا قال: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ أي: أدخلنا التكذيب، وأنظمناه في قلوب أهل الإجرام، كما يدخل السلك في الإبرة، فتشربته، وصار وصفا لها، وذلك بسبب ظلمهم وجرمهم، فلذلك: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ على تكذيبهم.
﴿فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أي: يأتيهم على حين غفلة، وعدم إحساس منهم، ولا استشعار بنزوله، ليكون أبلغ في عقوبتهم والنكال بهم.
﴿فَيَقُولُوا﴾ إذ ذاك: ﴿هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ﴾ أي: يطلبون أن ينظروا ويمهلوا، والحال إنه قد فات الوقت، وحل بهم العذاب الذي لا يرفع عنهم، ولا يفتر ساعة.