﴿فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ﴾ أي: جاءه الرسل بالهدية ﴿قَالَ﴾ منكرا عليهم ومتغيظا على عدم إجابتهم: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ﴾ فليست تقع عندي موقعا ولا أفرح بها قد أغناني الله عنها وأكثر علي النعم، ﴿بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ لحبكم للدنيا وقلة ما بأيديكم بالنسبة لما أعطاني الله.
ثم أوصى الرسول من غير كتاب لما رأى من عقله وأنه سينقل كلامه على وجهه فقال: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ﴾ أي: بهديتك ﴿فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ﴾ أي: لا طاقة لهم ﴿بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ فرجع إليهم وأبلغهم ما قال سليمان وتجهزوا للمسير إلى سليمان، وعلم سليمان أنهم لا بد أن يسيروا إليه فقال لمن حضره من الجن والإنس: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أي: لأجل أن نتصرف فيه قبل أن يسلموا فتكون أموالهم محترمة، ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ والعفريت: هو القوي النشيط جدا: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر، وهذا الملك العظيم الذي عند آحاد رعيته هذه القوة والقدرة وأبلغ من ذلك أن ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾ قال المفسرون: هو رجل عالم صالح عند سليمان يقال له: " آصف بن برخيا " كان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعا الله به أجاب وإذا سأل به أعطى.
﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ بأن يدعو الله بذلك الاسم فيحضر حالا وأنه دعا الله فحضر. فالله أعلم [هل هذا المراد أم أن عنده علما من الكتاب يقتدر به على جلب البعيد وتحصيل الشديد] (١)
﴿فَلَمَّا رَآهُ﴾ سليمان ﴿مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ﴾ حمد الله تعالى على إقداره وملكه وتيسير الأمور له و ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ أي: ليختبرني بذلك. فلم يغتر عليه السلام بملكه وسلطانه وقدرته كما هو دأب الملوك الجاهلين، بل علم أن ذلك اختبار من ربه فخاف أن لا يقوم بشكر هذه النعمة، ثم بين أن هذا الشكر لا ينتفع الله به وإنما يرجع نفعه إلى صاحبه فقال: ﴿وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ غني عن أعماله كريم كثير الخير يعم به الشاكر والكافر، إلا أن شكر نعمه داع للمزيد منها وكفرها داع لزوالها، ثم قال لمن عنده: ﴿نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا﴾ أي: غيروه بزيادة ونقص، ونحو ذلك ﴿نَنْظُرْ﴾ مختبرين لعقلها ﴿أَتَهْتَدِي﴾ للصواب ويكون عندها ذكاء وفطنة تليق بملكها ﴿أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَتْ﴾ قادمة على سليمان عرض عليها عرشها وكان عهدها به قد خلفته في بلدها، و ﴿قِيلَ﴾ لها ﴿أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ أي: أنه استقر عندنا أن لك عرشا عظيما فهل هو كهذا العرش الذي أحضرناه لك؟ ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ وهذا من ذكائها وفطنتها لم تقل " هو " لوجود التغيير فيه والتنكير ولم تنف أنه هو، لأنها عرفته، فأتت بلفظ محتمل للأمرين صادق على الحالين، فقال سليمان متعجبا من هدايتها وعقلها وشاكرا لله أن أعطاه أعظم منها: ﴿وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا﴾ أي: الهداية والعقل والحزم من قبل هذه الملكة، ﴿وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ وهي الهداية النافعة الأصلية.
ويحتمل أن هذا من قول ملكة سبأ: " وأوتينا العلم عن ملك سليمان وسلطانه وزيادة اقتداره من قبل هذه الحالة التي رأينا فيها قدرته على إحضار العرش من المسافة البعيدة فأذعنا له وجئنا مسلمين له خاضعين لسلطانه "
قال الله تعالى: ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: عن الإسلام، وإلا فلها من الذكاء والفطنة ما به تعرف الحق من الباطل ولكن العقائد الباطلة تذهب بصيرة القلب ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ فاستمرت على دينهم، وانفراد الواحد عن أهل الدين والعادة المستمرة بأمر يراه بعقله من ضلالهم وخطئهم من أندر ما يكون فلهذا لا يستغرب بقاؤها على الكفر، ثم إن سليمان أراد أن ترى من سلطانه ما يبهر العقول فأمرها أن تدخل الصرح وهي المجلس المرتفع المتسع وكان مجلسا من قوارير تجري تحته الأنهار.
فـ ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ ماء لأن القوارير شفافة، -[٦٠٦]- يرى الماء الذي تحتها كأنه بذاته يجري ليس دونه شيء، ﴿وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾ للخياضة وهذا أيضا من عقلها وأدبها، فإنها لم تمتنع من الدخول للمحل الذي أمرت بدخوله لعلمها أنها لم تستدع إلا للإكرام وأن ملك سليمان وتنظيمه قد بناه على الحكمة ولم يكن في قلبها أدنى شك من حالة السوء بعد ما رأت ما رأت.
فلما استعدت للخوض قيل لها: ﴿إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ أي: مملس ﴿مِنْ قَوَارِيرَ﴾ فلا حاجة منك لكشف الساقين. فحينئذ لما وصلت إلى سليمان وشاهدت ما شاهدت وعلمت نبوته ورسالته تابت ورجعت عن كفرها و ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
فهذا ما قصه الله علينا من قصة ملكة سبأ وما جرى لها مع سليمان، وما عدا ذلك من الفروع المولدة والقصص الإسرائيلية فإنه لا يتعلق بالتفسير لكلام الله وهو من الأمور التي يقف الجزم بها، على الدليل المعلوم عن المعصوم، والمنقولات في هذا الباب كلها أو أكثرها ليس كذلك، فالحزم كل الحزم، الإعراض عنها وعدم إدخالها في التفاسير. والله أعلم.

(١) زيادة من هامش ب.


الصفحة التالية
Icon