﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ﴾ فهذه الأمور كلها، قد تعلقت بها إرادة الله، وجرت بها مشيئته، ﴿و﴾ كذلك نريد أن ﴿نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ وزيره ﴿وَجُنُودَهُمَا﴾ التي بها صالوا وجالوا، وعلوا وبغوا ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: من هذه الطائفة المستضعفة. ﴿مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ من إخراجهم من ديارهم، ولذلك كانوا يسعون في قمعهم، وكسر شوكتهم، وتقتيل أبنائهم، الذين هم محل ذلك، فكل هذا قد أراده الله، وإذا أراد أمرا سهل أسبابه، ونهج طرقه، وهذا الأمر كذلك، فإنه قدر وأجرى من الأسباب -التي لم يشعر بها لا أولياؤه ولا أعداؤه- ما هو سبب موصل إلى هذا المقصود.
فأول ذلك، لما أوجد الله رسوله موسى، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة، التي يذبحون بها الأبناء، أوحى إلى أمه أن ترضعه، ويمكث عندها.
﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ﴾ بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم، ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ أي نيل مصر، في وسط تابوت مغلق، ﴿وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فبشرها بأنه سيرده عليها، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم، ويجعله الله رسولا.
وهذا من أعظم البشائر الجليلة، وتقديم هذه البشارة لأم موسى، ليطمئن قلبها، ويسكن روعها، فإنها خافت عليه، وفعلت ما أمرت به، ألقته في اليم، فساقه الله تعالى.
﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ فصار من لقطهم، وهم الذين باشروا وجدانه، ﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ أي: لتكون العاقبة والمآل من هذا الالتقاط، أن يكون عدوا لهم وحزنا يحزنهم، بسبب أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن الذي خافوا منه من بني إسرائيل، قيض الله أن يكون زعيمهم، يتربى تحت أيديهم، وعلى نظرهم، وبكفالتهم.
وعند التدبر والتأمل، تجد في طي ذلك من المصالح لبني إسرائيل، ودفع كثير من الأمور الفادحة بهم، ومنع كثير من التعديات قبل رسالته، بحيث إنه صار من كبار المملكة.
وبالطبع، إنه لا بد أن يحصل منه مدافعة عن حقوق شعبه هذا، وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقدة، ولهذا وصلت الحال بذلك الشعب المستضعف -الذي بلغ بهم الذل والإهانة إلى ما قص الله علينا بعضه - أن صار بعض أفراده، ينازع ذلك الشعب القاهر العالي في الأرض، كما سيأتي بيانه.
وهذا مقدمة للظهور، فإن الله تعالى من سنته الجارية، أن جعل الأمور تمشي على التدريج شيئا فشيئا، ولا تأتي دفعة واحدة.
وقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ أي: فأردنا أن نعاقبهم على خطئهم (١) ونكيد هم، جزاء على مكرهم وكيدهم.
فلما التقطه آل فرعون، حنَّن الله عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة " آسية " بنت مزاحم " وَقَالَتِ " هذا الولد ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ﴾ أي: أبقه لنا، لِتقرَّ به أعيننا، ونستر به في حياتنا.
﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ أي: لا يخلو، إما أن يكون بمنزلة الخدم، الذين يسعون في نفعنا وخدمتنا، أو نرقيه منزلة أعلى من ذلك، نجعله ولدا لنا، ونكرمه، ونجله.
فقدَّر الله تعالى، أنه نفع امرأة فرعون، التي قالت تلك المقالة، فإنه لما صار قرة عين لها، وأحبته حبا شديدا، فلم يزل لها بمنزلة الولد الشفيق حتى كبر ونبأه الله وأرسله، فبادرت إلى الإسلام والإيمان به، رضي الله عنها وأرضاها.
قال الله تعالى هذه المراجعات -[٦١٣]-[والمقاولات] في شأن موسى: ﴿وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ ما جرى به القلم، ومضى به القدر، من وصوله إلى ما وصل إليه، وهذا من لطفه تعالى، فإنهم لو شعروا، لكان لهم وله، شأن آخر.
ولما فقدت موسى أمه، حزنت حزنا شديدا، وأصبح فؤادها فارغا من القلق الذي أزعجها، على مقتضى الحالة البشرية، مع أن الله تعالى نهاها عن الحزن والخوف، ووعدها برده.
﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ أي: بما في قلبها ﴿لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا﴾ فثبتناها، فصبرت، ولم تبد به. ﴿لِتَكُونَ﴾ بذلك الصبر والثبات ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فإن العبد إذا أصابته مصيبة فصبر وثبت، ازداد بذلك إيمانه، ودل ذلك، على أن استمرار الجزع مع العبد، دليل على ضعف إيمانه.
﴿وَقَالَتِ﴾ أم موسى ﴿لأخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أي: اذهبي [فقصي الأثر عن أخيك وابحثي عنه من غير أن يحس بك أحد أو يشعروا بمقصودك فذهبت تقصه] ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ أي: أبصرته على وجه، كأنها مارة لا قصد لها فيه.
وهذا من تمام الحزم والحذر، فإنها لو أبصرته، وجاءت إليهم قاصدة، لظنوا بها أنها هي التي ألقته، فربما عزموا على ذبحه، عقوبة لأهله.
ومن لطف الله بموسى وأمه، أن منعه من قبول ثدي امرأة، فأخرجوه إلى السوق رحمة به، ولعل أحدا يطلبه، فجاءت أخته، وهو بتلك الحال ﴿فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ﴾.
وهذا جُلُّ غرضهم، فإنهم أحبوه حبا شديدا، وقد منعه الله من المراضع فخافوا أن يموت، فلما قالت لهم أخته تلك المقالة، المشتملة على الترغيب، في أهل هذا البيت، بتمام حفظه وكفالته والنصح له، بادروا إلى إجابتها، فأعلمتهم ودلتهم على أهل هذا البيت.
﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ﴾ كما وعدناها بذلك ﴿كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ﴾ بحيث إنه تربى عندها على وجه تكون فيه آمنة مطمئنة، تفرح به، وتأخذ الأجرة الكثيرة على ذلك، ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ فأريناها بعض ما وعدناها به عيانا، ليطمئن بذلك قلبها، ويزداد إيمانها، ولتعلم أنه سيحصل وعد الله في حفظه ورسالته، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ فإذا رأوا السبب متشوشا، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن الله تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة، فاستمر موسى عليه الصلاة والسلام عند آل فرعون، يتربى في سلطانهم، ويركب مراكبهم، ويلبس ملابسهم، وأمه بذلك مطمئنة، قد استقر أنها أمه من الرضاع، ولم يستنكر ملازمته إياها وحنوها عليها.
وتأمل هذا اللطف، وصيانة نبيه موسى من الكذب في منطقه، وتيسير الأمر، الذي صار به التعلق بينه وبينها، الذي بان للناس أنه هو الرضاع، الذي بسببه يسميها أُمَّا، فكان الكلام الكثير منه ومن غيره في ذلك كله، صدقا وحقا.

(١) كذا في ب، وفي أ: نعاقبهما على خطئهما.


الصفحة التالية
Icon