﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ﴾ يحتمل أنه قضى الأجل الواجب، أو الزائد عليه، كما هو الظن بموسى ووفائه، اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدته وعشيرته، ووطنه، وعلم من طول المدة، أنهم قد تناسوا ما صدر منه. ﴿سَارَ بِأَهْلِهِ﴾ قاصدا مصر، ﴿آنَسَ﴾ أي: أبصر ﴿مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ وكان قد أصابهم البرد، وتاهوا الطريق.
﴿٣٠﴾ فلما أتاها نودي ﴿يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ فأخبر بألوهيته وربوبيته، ويلزم من ذلك، أن يأمره بعبادته، وتألهه، كما صرح به في الآية الأخرى ﴿فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾.
﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ﴾ فألقاها ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ﴾ تسعى سعيا شديدا، ولها سورة مُهِيلة ﴿كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾ ذَكَرُ الحيات العظيم، ﴿وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي: يرجع، لاستيلاء الروع على قلبه، فقال الله له: ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾ وهذا أبلغ ما يكون في التأمين، وعدم الخوف.
فإن قوله: ﴿أَقْبِلْ﴾ يقتضي الأمر بإقباله، ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكون إقباله، وهو لم يزل في الأمر المخوف، فقال: ﴿وَلا تَخَفْ﴾ أمر له بشيئين، إقباله، وأن لا يكون في قلبه خوف، ولكن يبقى احتمال، وهو أنه قد يقبل وهو غير خائف، ولكن لا تحصل له الوقاية والأمن من المكروه، فقال: ﴿إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ﴾ فحينئذ اندفع المحذور من جميع الوجوه، فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوب، بل مطمئنا، واثقا بخبر ربه، قد ازداد إيمانه، وتم يقينه، فهذه آية، أراه الله إياها قبل ذهابه إلى فرعون، ليكون على يقين تام، فيكون (١) أجرأ له، وأقوى وأصلب.
ثم أراه الآية الأخرى فقال: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾ أي: أدخلها ﴿فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾ فسلكها وأخرجها، كما ذكر الله تعالى.
﴿وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف. ﴿فَذَانِكَ﴾ انقلاب العصا حية، وخروج اليد بيضاء من غير سوء ﴿بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي: حجتان قاطعتان من الله، ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم، بل لا بد من الآيات الباهرة، إن نفعت.
فـ ﴿قَالَ﴾ موسى عليه السلام.
-[٦١٦]-
معتذرا من ربه، وسائلا له المعونة على ما حمله، وذاكرا له الموانع التي فيه، ليزيل ربه ما يحذره منها. ﴿رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا﴾ أي: ﴿فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا﴾ أي: معاونا ومساعدا ﴿يُصَدِّقُنِي﴾ فإنه مع تضافر الأخبار يقوى الحق فأجابه الله إلى سؤاله فقال: ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾ أي: نعاونك به ونقويك.
ثم أزال عنه محذور القتل، فقال: ﴿وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا﴾ أي: تسلطا، وتمكنا من الدعوة، بالحجة، والهيبة الإلهية من عدوهما لهما، ﴿فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا﴾ وذلك بسبب آياتنا، وما دلت عليه من الحق، وما أزعجت به من باشرها ونظر إليها، فهي التي بها حصل لكما السلطان، واندفع بها عنكم، كيد عدوكم (٢) وصارت لكم أبلغ من الجنود، أولي الْعَدَدِ والْعُدَدِ.
﴿أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ﴾ وهذا وعد لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريد، وقد رجع إلى بلده، بعد ما كان شريدا، فلم تزل الأحوال تتطور، والأمور تنتقل، حتى أنجز الله له موعوده، ومكنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعه، الغلبة والظهور.
(٢) كذا في ب، وفي أ: عنكم كيد عدوهم.