﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾. أي: بجانب الطور الغربي وقت قضائنا لموسى الأمر ﴿وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ على ذلك، حتى يقال: إنه وصل إليك من هذا الطريق.
﴿وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ فاندرس العلم، ونسيت آياته، فبعثناك في وقت اشتدت الحاجة إليك وإلى ما علمناك وأوحينا إليك. ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا﴾ أي: مقيما ﴿فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ أي: تعلمهم وتتعلم منهم، حتى أخبرت بما أخبرت من شأن موسى في مدين، ﴿وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ أي: ولكن ذلك الخبر الذي جئت به عن موسى، أثر من آثار إرسالنا إياك، وَوَحْيٌ لا سبيل لك إلى علمه، بدون إرسالنا.
﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ موسى، وَأمرناه أن يأتي القوم الظالمين، ويبلغهم رسالتنا، ويريهم من آياتنا وعجائبنا ما قصصنا عليك. والمقصود: أن الماجريات، التي جرت لموسى عليه الصلاة والسلام في هذه الأماكن، فقصصتها كما هي، من غير زيادة ولا نقص، لا يخلو من أحد أمرين.
إما أن تكون حضرتها وشاهدتها، أو ذهبت إلى محالِّها فتعلمتها من أهلها، فحينئذ قد لا يدل ذلك على أنك رسول الله، إذ الأمور التي يخبر بها عن شهادة ودراسة، من الأمور المشتركة غير المختصة بالأنبياء، ولكن هذا قد عُلِمَ وتُيُقِّن أنه ما كان وما صار، فأولياؤك وأعداؤك يعلمون عدم ذلك.
فتعين الأمر الثاني، وهو: أن هذا جاءك من قِبَلِ الله ووحيه وإرساله، فثبت بالدليل القطعي، صحة رسالتك، ورحمة الله بك للعباد، ولهذا قال: ﴿وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ أي: العرب، وقريش، فإن الرسالة [عندهم] لا تعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمان متطاولة، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ تفصيل الخير فيفعلونه، والشر فيتركونه، فإذا كنت بهذه المنزلة، كان الواجب عليهم، المبادرة إلى الإيمان بك، وشكر هذه النعمة، التي لا يقادر قدرها، ولا يدرك شكرها.
وإنذاره للعرب لا ينفي أن يكون مرسلا لغيرهم، فإنه عربي، والقرآن الذي أنزل عليه عربي، وأول من باشر بدعوته العرب، فكانت رسالته إليهم أصلا ولغيرهم تبعا، كما قال تعالى ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾.
﴿وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: فأرسلناك يا محمد، لدفع حجتهم، وقطع مقالتهم.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾ الذي لا شك فيه ﴿مِنْ عِنْدِنَا﴾ وهو القرآن، الذي أوحيناه إليك ﴿قَالُوا﴾ مكذبين له، ومعترضين بما ليس يعترض به: ﴿لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾ أي: أنزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة. أي: فأما ما دام ينزل متفرقا، فإنه ليس من عند الله. وأي: دليل في هذا؟ وأي: شبهة أنه ليس من عند الله، حين نزل مفرقا؟
بل من كمال هذا القرآن، واعتناء الله بمن أنزل عليه، أن نزل متفرقا، ليثبت الله به فؤاد رسوله، ويحصل زيادة الإيمان للمؤمنين ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ وأيضا، فإن قياسهم على كتاب موسى، قياس قد نقضوه، -[٦١٨]- فكيف يقيسونه على كتاب كفروا به ولم يؤمنوا؟ ولهذا قال ﴿أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا﴾ أي: القرآن والتوراة، تعاونا في سحرهما، وإضلال الناس ﴿وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ﴾ فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان، وينقضونه بما لا ينقض، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة، وهذا شأن كل كافر. ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين، ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا للحق، واتباعا لأمر عندهم خير منهما، أم مجرد هوى؟.
قال تعالى ملزما لهم بذلك: ﴿فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا﴾ أي: من التوراة والقرآن ﴿أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ولا سبيل لهم ولا لغيرهم أن يأتوا بمثلهما، فإنه ما طرق العالم منذ خلقه الله، مثل هذين الكتابين، علما وهدى، وبيانا، ورحمة للخلق، وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال: أنا مقصودي الحق والهدى والرشد، وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك، الموافق لكتاب موسى، فيجب علينا جميعا الإذعان لهما واتباعهما، من حيث كونهما هدى وحقا، فإن جئتموني بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعته، وإلا فلا أترك هدى وحقا قد علمته لغير هدى وحق (١)
﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ﴾ فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما ﴿فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ أي: فاعلم أن تركهم اتباعك، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه، ولا إلى هدى، وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم. ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ فهذا من أضل الناس، حيث عرض عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء (٢) فاتبعه وترك الهدى، فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟ " ولكن ظلمه وعدوانه، وعدم محبته للحق، هو الذي أوجب له: أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله، فلهذا قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: الذين صار الظلم لهم وصفا والعناد لهم نعتا، جاءهم الهدى فرفضوه، وعرض لهم الهوى، فتبعوه، سدوا على أنفسهم أبواب الهداية وطرقها، وفتحوا عليهم أبواب الغواية وسبلها، فهم في غيهم وظلمهم يعمهون، وفي شقائهم وهلاكهم يترددون.
وفي قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ دليل على أن كل من لم يستجب للرسول، وذهب إلى قول مخالف لقول الرسول، فإنه لم يذهب إلى هدى، وإنما ذهب إلى هوى.

(١) كذا في ب، وفي أ: لغيره حق.
(٢) كذا في ب، وفي أ: الشقاق.


الصفحة التالية
Icon