﴿١٠ - ١١﴾ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
أي: ولقد مننا على عبدنا ورسولنا، داود عليه الصلاة والسلام، وآتيناه فضلا من العلم النافع، والعمل الصالح، والنعم الدينية والدنيوية، ومن نعمه عليه، ما خصه به من أمره تعالى الجمادات، كالجبال والحيوانات، من الطيور، أن تُؤَوِّب معه، وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها، مجاوبة له، وفي هذا من النعمة عليه، أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات، تتجاوب بتسبيح ربها، وتمجيده، وتكبيره، وتحميده، كان ذلك مما يهيج على ذكر الله تعالى.
ومنها: أن ذلك - كما قال كثير من العلماء، أنه طرب لصوت داود، فإن الله تعالى، قد أعطاه من حسن الصوت، ما فاق به غيره، وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب، طرب كل من سمعه، من الإنس، والجن، حتى الطيور والجبال، وسبحت بحمد ربها.
ومنها: أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها، لأنه سبب ذلك، وتسبح تبعا له.
ومن فضله عليه، أن ألان له الحديد، ليعمل الدروع السابغات، وعلمه تعالى كيفية صنعته، بأن يقدره في السرد، أي: يقدره حلقا، ويصنعه كذلك، ثم يدخل بعضها ببعض.
قال تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾
ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله، أمره بشكره، وأن يعملوا صالحا، ويراقبوا الله تعالى فيه، بإصلاحه وحفظه من المفسدات، فإنه بصير بأعمالهم، مطلع عليهم، لا يخفى عليه منها شيء.
﴿١٢ - ١٤﴾ ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾.
لما ذكر فضله على داود عليه السلام، ذكر فضله على ابنه سليمان، عليه الصلاة والسلام، وأن الله سخر له الريح تجري بأمره، وتحمله، وتحمل جميع ما معه، وتقطع المسافة البعيدة جدا، في مدة يسيرة، فتسير في اليوم، مسيرة شهرين. ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ أي: أول النهار إلى الزوال ﴿وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ من الزوال، إلى آخر النهار ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ أي: سخرنا له عين النحاس، وسهلنا له الأسباب، في استخراج ما يستخرج منها من الأواني وغيرها.
وسخر الله له أيضا، الشياطين والجن، لا يقدرون أن يستعصوا عن أمره، ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ وأعمالهم (١) كل ما شاء سليمان، عملوه.
﴿مِنْ مَحَارِيبَ﴾ وهو كل بناء يعقد، وتحكم به الأبنية، فهذا فيه ذكر الأبنية الفخمة، ﴿وَتَمَاثِيلَ﴾ أي: صور الحيوانات والجمادات، من إتقان صنعتهم، -[٦٧٧]- وقدرتهم على ذلك وعملهم لسليمان ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ﴾ أي: كالبرك الكبار، يعملونها لسليمان للطعام، لأنه يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه غيره، ويعملون له قدورا راسيات لا تزول عن أماكنها، من عظمها.
فلما ذكر منته عليهم، أمرهم بشكرها فقال: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ﴾ وهم داود، وأولاده، وأهله، لأن المنة على الجميع، وكثير من هذه المصالح عائد لكلهم. ﴿شُكْرًا﴾ لله على ما أعطاهم، ومقابلة لما أولاهم. ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ فأكثرهم، لم يشكروا الله تعالى على ما أولاهم من نعمه، ودفع عنهم من النقم.
والشكر: اعتراف القلب بمنة الله تعالى، وتلقيها افتقارا إليها، وصرفها في طاعة الله تعالى، وصونها عن صرفها في المعصية.
فلم يزل الشياطين يعملون لسليمان، عليه الصلاة والسلام، كل بناء، وكانوا قد موهوا على الإنس، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيب، ويطلعون على المكنونات، فأراد الله تعالى أن يُرِيَ العباد كذبهم في هذه الدعوى، فمكثوا يعملون على عملهم، وقضى الله الموت على سليمان عليه السلام، واتَّكأ على عصاه، وهي المنسأة، فصاروا إذا مروا به وهو متكئ عليها، ظنوه حيا، وهابوه.
فغدوا على عملهم كذلك سنة كاملة على ما قيل، حتى سلطت دابة الأرض على عصاه، فلم تزل ترعاها، حتى باد وسقط فسقط سليمان عليه السلام وتفرقت الشياطين وتبينت الإنس أن الجن ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ وهو العمل الشاق عليهم، فلو علموا الغيب، لعلموا موت سليمان، الذي هم أحرص شيء عليه، ليسلموا مما هم فيه.

(١) كذا في ب، وفي أ: وأعماله.


الصفحة التالية
Icon