﴿مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾.
فيقال لهم: ﴿مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ﴾ أي: ما الذي جرى عليكم اليوم؟ وما الذي طرقكم لا ينصر بعضكم بعضا، ولا يغيث بعضكم بعضا، بعدما كنتم تزعمون في الدنيا، أن آلهتكم ستدفع عنكم العذاب، وتغيثكم وتشفع لكم عند الله، فكأنهم لا يجيبون هذا السؤال، لأنهم قد علاهم الذل والصغار، واستسلموا لعذاب النار، وخشعوا وخضعوا وأبلسوا، فلم ينطقوا.
ولهذا قال: ﴿بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾
﴿٢٧ - ٣٩﴾ ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ * قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ * فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ * فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ * بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ * إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
لما جمعوا هم وأزواجهم وآلهتهم، وهدوا إلى صراط الجحيم، ووقفوا، فسئلوا، فلم يجيبوا، وأقبلوا فيما بينهم، يلوم بعضهم بعضا على إضلالهم وضلالهم.
فقال الأتباع للمتبوعين الرؤساء: ﴿إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ﴾ أي: بالقوة والغلبة، فتضلونا، ولولا أنتم لكنا مؤمنين.
﴿قَالُوا﴾ لهم ﴿بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ أي: ما زلتم مشركين، كما نحن مشركون، فأي: شيء فضلكم علينا؟ وأي: شيء يوجب لومنا؟
﴿و﴾ الحال أنه ﴿مَا كَانَ لنا عليكم مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي: قهر لكم على اختيار الكفر ﴿بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ متجاوزين للحد (١).
﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا﴾ نحن وإياكم ﴿إِنَّا لَذَائِقُونَ﴾ العذاب، أي: حق علينا قدر ربنا وقضاؤه، أنا وإياكم سنذوق العذاب، ونشترك في العقاب.
﴿فـ﴾ لذلك ﴿أَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي: دعوناكم إلى طريقتنا التي نحن عليها، وهي الغواية، فاستجبتم لنا، فلا تلومونا ولوموا أنفسكم.
قال تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يوم القيامة ﴿فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ وإن تفاوتت مقادير عذابهم بحسب جرمهم.
كما اشتركوا في الدنيا على الكفر، اشتركوا في الآخرة بجزائه، ولهذا قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ﴾
ثم ذكر أن إجرامهم، قد بلغ الغاية وجاوز النهاية فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ﴾ فدعوا إليها، وأمروا بترك إلهية ما سواه ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عنها وعلى من جاء بها.
﴿وَيَقُولُونَ﴾ معارضة لها ﴿أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا﴾ التي لم نزل نعبدها نحن وآباؤنا ﴿لـ﴾ قول ﴿شَاعِرٍ مَجْنُونٍ﴾ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. فلم يكفهم - قبحهم الله - الإعراض عنه، ولا مجرد تكذيبه، حتى حكموا عليه بأظلم الأحكام، وجعلوه شاعرا مجنونا، وهم يعلمون أنه لا يعرف الشعر والشعراء، ولا وصفه وصفهم، وأنه أعقل خلق الله، وأعظمهم رأيا.
ولهذا قال تعالى، ناقضا لقولهم: ﴿بَلْ جَاءَ﴾ محمد ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: مجيئه حق، وما جاء به من الشرع والكتاب حق. ﴿وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [أي: ومجيئه صدق المرسلين] فلولا مجيئه وإرساله لم يكن الرسل صادقين، فهو آية ومعجزة لكل رسول قبله، لأنهم أخبروا به وبشروا، وأخذ الله عليهم العهد والميثاق، لئن جاءهم، ليؤمنن به ولينصرنه، وأخذوا ذلك على أممهم، فلما جاء ظهر صدق الرسل الذين قبله، وتبين كذب من خالفهم،. فلو قدر عدم مجيئه، وهم قد أخبروا به، لكان ذلك قادحا في صدقهم.
وصدق أيضا المرسلين، بأن جاء بما جاءوا به، ودعا إلى ما دعوا إليه، وآمن بهم، وأخبر بصحة رسالتهم ونبوتهم وشرعهم.
ولما كان قولهم السابق: ﴿إِنَّا لَذَائِقُونَ﴾ قولا صادرا منهم، يحتمل أن يكون صدقا أو غيره، أخبر تعالى بالقول الفصل الذي لا يحتمل غير الصدق واليقين، وهو الخبر الصادر منه تعالى، فقال: ﴿إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الألِيمِ﴾ أي: المؤلم الموجع.
﴿وَمَا تُجْزَوْنَ﴾ في إذاقة العذاب الأليم ﴿إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فلم نظلمكم، وإنما عدلنا فيكم؟

(١) كذا في ب، وفي أ: للحق.

ولما كان هذا الخطاب لفظه عاما، والمراد به المشركون، استثنى تعالى المؤمنين فقال: -[٧٠٣]-
﴿٤٠ - ٤٩﴾ ﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾.
يقول تعالى: ﴿إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ فإنهم غير ذائقي العذاب الأليم، لأنهم أخلصوا لله الأعمال، فأخلصهم، واختصهم برحمته، وجاد عليهم بلطفه.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ أي: غير مجهول، وإنما هو رزق عظيم جليل، لا يجهل أمره، ولا يبلغ كنهه.
فسره بقوله: ﴿فَوَاكِهُ﴾ من جميع أنواع الفواكه التي تتفكه بها النفس، للذتها في لونها وطعمها. ﴿وَهُمْ مُكْرَمُونَ﴾ لا مهانون محتقرون، بل معظمون مجلون موقرون. قد أكرم بعضهم بعضا، وأكرمتهم الملائكة الكرام، وصاروا يدخلون عليهم من كل باب، ويهنئونهم ببلوغ أهنأ الثواب، وأكرمهم أكرم الأكرمين، وجاد عليهم بأنواع الكرامات، من نعيم القلوب والأرواح والأبدان.
﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ أي: الجنات التي النعيم وصفها، والسرور نعتها، وذلك لما جمعته، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وسلمت من كل مخل بنعيمها، من جميع المكدرات والمنغصات.
ومن كرامتهم عند ربهم، وإكرام بعضهم بعضا، أنهم على ﴿سُرُرٍ﴾ وهي المجالس المرتفعة، المزينة بأنواع الأكسية الفاخرة، المزخرفة المجملة، فهم متكئون عليها، على وجه الراحة والطمأنينة، والفرح.
﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ فيما بينهم قد صفت قلوبهم، ومحبتهم فيما بينهم، ونعموا باجتماع بعضهم مع بعض، فإن مقابلة وجوههم، تدل على تقابل قلوبهم، وتأدب بعضهم مع بعض فلم يستدبره، أو يجعله إلى جانبه، بل من كمال السرور والأدب، ما دل عليه ذلك التقابل.
﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ أي: يتردد الولدان المستعدون لخدمتهم بالأشربة اللذيذة، بالكاسات الجميلة المنظر، المترعة من الرحيق المختوم بالمسك، وهي كاسات الخمر.
وتلك الخمر، تخالف خمر الدنيا من كل وجه، فإنها في لونها ﴿بَيْضَاءَ﴾ من أحسن الألوان، وفي طعمها ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ يتلذذ شاربها بها وقت شربها وبعده، وأنها سالمة من غول العقل وذهابه، ونزفه، ونزف مال صاحبها، وليس فيها صداع ولا كدر، فلما ذكر طعامهم وشرابهم ومجالسهم، وعموم النعيم وتفاصيله داخلة في قوله: ﴿جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾
لكن فصل هذه الأشياء لتعلم فتشتاق النفوس إليها، ذكر أزواجهم فقال: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ﴾ أي: وعند أهل دار النعيم، في محلاتهم القريبة، حور حسان، كاملات الأوصاف، قاصرات الطرف، إما أنها قصرت طرفها على زوجها، لعفتها وعدم مجاوزته لغيره، ولجمال زوجها وكماله، بحيث لا تطلب في الجنة سواه، ولا ترغب إلا به، وإما لأنها قصرت طرف زوجها عليها، وذلك يدل على كمالها وجمالها الفائق، الذي أوجب لزوجها، أن يقصر طرفه عليها، وقصر الطرف أيضا، يدل على قصر النفس والمحبة عليها، وكلا المعنيين محتمل، وكلاهما صحيح، و [كل] هذا يدل على جمال الرجال والنساء في الجنة، ومحبة بعضهم بعضا، محبة لا يطمح إلى غيره، وشدة عفتهم كلهم، وأنه لا حسد فيها ولا تباغض، ولا تشاحن، وذلك لانتفاء أسبابه.
﴿عِينٌ﴾ أي: حسان الأعين جميلاتها، ملاح الحدق.
﴿كَأَنَّهُنَّ﴾ أي: الحور ﴿بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ أي: مستور، وذلك من حسنهن وصفائهن وكون ألوانهن أحسن الألوان وأبهاها، ليس فيه كدر ولا شين.


الصفحة التالية
Icon