﴿١١ - ١٦﴾ ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾.
أي ﴿قُلْ﴾ يا أيها الرسول للناس: ﴿إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين﴾ في قوله في أول السورة: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾
﴿وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ لأني الداعي الهادي للخلق إلى ربهم، فيقتضي أني أول من ائتمر بما آمر به، وأول من أسلم، وهذا الأمر لا بد من إيقاعه من محمد صلى الله عليه وسلم، وممن زعم أنه من أتباعه، فلا بد من الإسلام في الأعمال الظاهرة، والإخلاص لله في الأعمال الظاهرة والباطنة.
﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي﴾ في ما أمرني به من الإخلاص والإسلام. ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ يخلد فيه من أشرك، ويعاقب فيه من عصى.
﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ﴾ حقيقة هم ﴿الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث حرموها الثواب واستحقت بسببهم وخيم العقاب ﴿وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي فرق بينهم وبينهم واشتد عليهم الحزن وعظم الخسران ﴿أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ الذي ليس مثله خسران وهو خسران مستمر لا ربح بعده بل ولا سلامة
ثم ذكر شدة ما يحصل لهم من الشقاء فقال ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ﴾ أي قطع عذاب كالسحاب العظيم ﴿وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾
﴿ذَلِكَ﴾ الوصف الذي وصفنا به عذاب أهل النار سوط يسوق الله به عباده إلى رحمته ﴿يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ أي جعل ما أعده لأهل الشقاء من العذاب داع يدعو عباده إلى التقوى وزاجر عما يوجب العذاب فسبحان من رحم عباده في كل شيء وسهل لهم الطرق الموصلة إليه وحثهم على سلوكها ورغبهم بكل مرغب تشتاق له النفوس وتطمئن له القلوب وحذرهم من العمل لغيره غاية التحذير وذكر لهم الأسباب الزاجرة عن تركه
﴿١٧ - ١٨﴾ ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ﴾.
لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم، فقال: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا﴾ والمراد بالطاغوت في هذا الموضع، عبادة غير الله، فاجتنبوها في عبادتها. وهذا من أحسن الاحتراز من الحكيم العليم، لأن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها.
﴿وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ﴾ بعبادته وإخلاص الدين له، فانصرفت دواعيهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات، ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى﴾ التي لا يقادر قدرها، ولا يعلم وصفها، إلا من أكرمهم بها، وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن، والرؤيا الصالحة، والعناية الربانية من الله، التي يرون في خلالها، أنه مريد لإكرامهم في الدنيا والآخرة، ولهم البشرى في الآخرة عند الموت، وفي القبر، وفي القيامة، وخاتمة البشرى ما يبشرهم به الرب الكريم، من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة.
ولما أخبر أن لهم البشرى، أمره الله ببشارتهم، وذكر الوصف الذي استحقوا به البشارة فقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ﴾
وهذا جنس يشمل كل قول فهم يستمعون جنس القول ليميزوا بين ما ينبغي إيثاره -[٧٢٢]- مما ينبغي اجتنابه، فلهذا من حزمهم وعقلهم أنهم يتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام الله وكلام رسوله، كما قال في هذه السورة: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ الآية.
وفي هذه الآية نكتة، وهي: أنه لما أخبر عن هؤلاء الممدوحين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، كأنه قيل: هل من طريق إلى معرفة أحسنه حتى نتصف بصفات أولي الألباب، وحتى نعرف أن من أثره علمنا أنه من أولي الألباب؟
قيل: نعم، أحسنه ما نص الله عليه ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ الآية.
﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ﴾ لأحسن الأخلاق والأعمال ﴿وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ﴾ أي: العقول الزاكية.
ومن لبهم وحزمهم، أنهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره، على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإن الذي لا يميز بين الأقوال، حسنها، وقبيحها، ليس من أهل العقول الصحيحة، أو الذي يميز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثر الأحسن، كان ناقص العقل.