﴿وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ﴾ بالاستكبار عن عبادته والعلو على عباد الله، ﴿إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ أي: بحجة بينة ظاهرة وهو ما أتى به من المعجزات الباهرات والأدلة القاهرات، فكذبوه وهموا بقتله فلجأ بالله من شرهم فقال: ﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ﴾ أي: تقتلوني أشر القتلات بالرجم بالحجارة.
﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ أي: لكم ثلاث مراتب: الإيمان بي وهو مقصودي منكم فإن لم تحصل منكم هذه المرتبة فاعتزلوني لا علي ولا لي، فاكفوني شركم. فلم تحصل منهم المرتبة الأولى ولا الثانية بل لم يزالوا متمردين عاتين على الله محاربين لنبيه موسى عليه السلام غير ممكنين له من قومه بني إسرائيل. ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ أي: قد أجرموا جرما يوجب تعجيل العقوبة.
فأخبر عليه السلام بحالهم وهذا دعاء بالحال التي هي أبلغ من المقال، كما قال عن نفسه عليه السلام ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ فأمره الله أن يسري بعباده ليلا وأخبره أن فرعون وقومه سيتبعونه. ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾ أي: بحاله وذلك أنه لما سرى موسى ببني إسرائيل كما أمره الله ثم تبعهم فرعون فأمر الله موسى أن يضرب البحر فضربه فصار اثنى عشر طريقا وصار الماء من بين تلك الطرق كالجبال العظيمة فسلكه موسى وقومه.
فلما خرجوا منه أمره الله أن يتركه رهوا أي: بحاله ليسلكه فرعون وجنوده ﴿إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ فلما تكامل قوم موسى خارجين منه وقوم فرعون داخلين فيه أمره الله تعالى أن يلتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا وأورثه الله بني إسرائيل الذين كانوا مستعبدين لهم ولهذا قال: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا﴾ أي هذه النعمة المذكورة ﴿قَوْمًا آخَرِينَ﴾ وفي الآية الأخرى ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأرْضُ﴾ أي لما أتلفهم الله وأهلكهم لم تبك عليهم السماء والأرض أي لم يحزن عليهم ولم يؤس على فراقهم بل كل استبشر بهلاكهم وتلفهم حتى السماء والأرض لأنهم ما خلفوا من آثارهم إلا ما يسود وجوههم ويوجب عليهم اللعنة والمقت من العالمين
﴿وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾ أي ممهلين عن العقوبة بل اصطلمتهم في الحال ثم امتن تعالى على بني إسرائيل فقال ﴿وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ الذي كانوا فيه ﴿مِنْ فِرْعَوْنَ﴾ إذ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا﴾ أي مستكبرا في الأرض بغير الحق ﴿مِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ المتجاوزين لحدود الله المتجرئين على محارمه
﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ﴾ أي اصطفيناهم وانتقيناهم ﴿عَلَى عِلْمٍ﴾ منا بهم وباستحقاقهم لذلك الفضل ﴿عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ أي عالمي زمانهم ومن قبلهم وبعدهم حتى أتى الله بأمة محمد ﷺ ففضلوا العالمين كلهم وجعلهم الله خير أمة أخرجت للناس وامتن عليهم بما لم يمتن به على غيرهم
﴿وَآتَيْنَاهُمْ﴾ أي بني إسرائيل ﴿مِنَ الآيَاتِ﴾ الباهرة والمعجزات الظاهرة ﴿مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ﴾ أي -[٧٧٤]- إحسان كثير ظاهر منا عليهم وحجة عليهم على صحة ما جاءهم به نبيهم موسى عليه السلام