﴿٣٧﴾ ﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾.
﴿فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ [أي] يوم القيامة من شدة الأهوال، وكثرة البلبال، وترادف الأوجال، فانخسفت شمسها وقمرها، وانتثرت نجومها، ﴿فَكَانَتْ﴾ من شدة الخوف والانزعاج ﴿وَرْدَةً كَالدِّهَانِ﴾ أي: كانت كالمهل والرصاص المذاب ونحوه ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ﴾ أي: سؤال استعلام بما وقع، لأنه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي والمستقبل، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم، وقد جعل لأهل الخير والشر يوم القيامة علامات يعرفون بها، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾
﴿٤١﴾ ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ﴾.
وقال هنا: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأقْدَامِ﴾ أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم، فيلقون في النار ويسحبون فيها، وإنما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقرير بما وقع منهم، وهو أعلم به منهم، ولكنه تعالى يريد أن تظهر للخلق حجته البالغة، وحكمته الجليلة.
﴿٤٣-٤٥﴾ ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.
أي: يقال للمكذبين بالوعد والوعيد حين تسعر الجحيم: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ فليهنهم تكذيبهم بها، وليذوقوا من عذابها ونكالها وسعيرها وأغلالها، ما هو جزاء لتكذيبهم (١).
﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا﴾ أي: بين أطباق الجحيم ولهبها ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ أي: ماء حار جدا قد انتهى حره، وزمهرير قد اشتد برده وقره، ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين، ذكر جزاء المتقين الخائفين فقال:
﴿٤٦-٦٥﴾ ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُدْهَامَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ إلى آخر السورة.
أي: وللذي خاف ربه وقيامه عليه، فترك ما نهى عنه، وفعل ما أمره به، له جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات، والأخرى على فعل الطاعات.
ومن أوصاف تلك الجنتين أنهما ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ [أي: فيهما من ألوان النعيم المتنوعة نعيم الظاهر والباطن ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر] (١) أن (٢) فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة ذوات الغصون الناعمة، التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللذيذة، أو ذواتا أنواع وأصناف من جميع أصناف النعيم وأنواعه جمع فن، أي: صنف.
وفي تلك الجنتين ﴿عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ يفجرونها على ما يريدون ويشتهون.
﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ من جميع أصناف الفواكه ﴿زَوْجَانِ﴾ أي: صنفان، كل صنف له لذة ولون، ليس للنوع الآخر.
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ هذه صفة فرش أهل الجنة وجلوسهم عليها، وأنهم متكئون عليها، [أي:] جلوس تمكن واستقرار [وراحة]، كجلوس من الملوك على الأسرة، وتلك الفرش، لا يعلم وصفها وحسنها إلا الله عز وجل، حتى إن بطائنها التي تلي الأرض منها، من إستبرق، وهو أحسن الحرير وأفخره، فكيف بظواهرها التي تلي بشرتهم؟! (٣) ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ الجنى هو الثمر المستوي أي: وثمر هاتين الجنتين قريب التناول، يناله القائم والقاعد والمضطجع.
﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ أي: قد قصرن طرفهن على أزواجهن، من حسنهم وجمالهم، وكمال محبتهن لهم، وقصرن أيضا طرف أزواجهن عليهن، من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن، ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ﴾ أي: لم ينلهن قبلهم أحد من الإنس والجن، بل هن أبكار عرب، متحببات إلى أزواجهن، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال، ولهذا قال:
﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ﴾ وذلك لصفائهن وجمال منظرهن وبهائهن.
﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ أي: هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل، والفوز الكبير، والنعيم المقيم، والعيش السليم، فهاتان الجنتان العاليتان للمقربين.
﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ من فضة بنيانهما وآنيتهما وحليتهما وما فيهما لأصحاب اليمين.
وتلك الجنتان ﴿مُدْهَامَّتَانِ﴾ أي: سوداوان من شدة الخضرة التي هي أثر الري.
(٢) كذا في ب، وفي أ: أي.
(٣) في ب: التي يباشرون.
﴿٦٦﴾ ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾. أي: فوارتان.
﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ﴾ من جميع أصناف الفواكه، وأخصها النخل والرمان، اللذان فيهما من المنافع ما فيهما.
﴿فِيهِنَّ﴾ أي: في الجنات كلها ﴿خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ أي: خيرات -[٨٣٢]- الأخلاق حسان الأوجه، فجمعن بين جمال الظاهر والباطن، وحسن الخلق والخلق.
﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأن وأعددن أنفسهن لأزواجهن، ولا ينفي ذلك خروجهن في البساتين ورياض الجنة، كما جرت العادة لبنات الملوك ونحوهن [المخدرات] الخفرات.
﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ أي: أصحاب هاتين الجنتين، متكأهم على الرفرف الأخضر، وهي الفرش التي فوق (١) المجالس العالية، التي قد زادت على مجالسهم، فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم، لزيادة البهاء وحسن المنظر، ﴿وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾ العبقري: نسبة لكل منسوج نسجا حسنا فاخرا، ولهذا وصفها بالحسن الشامل، لحسن الصنعة وحسن المنظر، ونعومة الملمس، وهاتان الجنتان دون الجنتين الأوليين، كما نص الله على ذلك بقوله: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ﴾ وكما وصف الأوليين بعدة أوصاف لم يصف بها الأخريين، فقال في الأوليين: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ وفي الأخريين: ﴿عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضاخة.
وقال في الأوليين: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ﴾ ولم يقل ذلك في الأخريين. وقال في الأوليين: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ وفي الأخريين ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ وقد علم ما بين الوصفين من التفاوت.
وقال في الأوليين: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ ولم يقل ذلك في الأخيرتين، بل قال: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ﴾
وقال في الأوليين، في وصف نسائهم وأزواجهم: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان﴾ وقال في الأخريين: ﴿حور مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ وقد علم التفاوت بين ذلك.
وقال في الأوليين (٢) ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ فدل ذلك أن الأوليين جزاء المحسنين، ولم يقل ذلك في الأخريين.
ومجرد تقديم الأوليين على الأخريين، يدل على فضلهما.
فبهذه الأوجه يعرف فضل الأوليين على الأخريين، وأنهما معدتان للمقربين من الأنبياء، والصديقين، وخواص عباد الله الصالحين، وأن الأخريين معدتان لعموم المؤمنين، وفي كل من الجنات [المذكورات] ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيهن ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأهلها في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى، حتى إن كلا (٣) منهم لا يرى أحدا أحسن حالا منه، ولا أعلى من نعيمه [الذي هو فيه].
ولما ذكر سعة فضله وإحسانه، قال: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ أي: تعاظم وكثر خيره، الذي له الجلال الباهر، والمجد الكامل، والإكرام لأوليائه.
تم تفسير سورة الرحمن، ولله الحمد والشكر والثناء الحسن.
(٢) كذا في ب، وفي أ: الأخيرتين ويبدو أنه سبق قلم.
(٣) في ب: كل واحد منهم.