﴿١٤﴾ ﴿وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾.
وهذا يدل على فضل صدر هذه الأمة في الجملة على متأخريها، لكون المقربين من الأولين أكثر من المتأخرين.
والمقربون هم خواص الخلق، ﴿عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ أي: مرمولة بالذهب والفضة، واللؤلؤ، والجوهر، وغير ذلك من [الحلي] الزينة، التي لا يعلمها إلا الله تعالى.
﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا﴾ أي: على تلك السرر، جلوس تمكن وطمأنينة وراحة واستقرار. ﴿مُتَقَابِلِينَ﴾ وجه كل منهم إلى وجه صاحبه، من صفاء قلوبهم، وحسن أدبهم، وتقابل قلوبهم.
﴿١٧﴾ ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ﴾.
أي: يدور على أهل الجنة لخدمة وقضاء حوائجهم، ولدان صغار الأسنان، في غاية الحسن والبهاء، ﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ﴾ أي: مستور، لا يناله ما يغيره، مخلوقون للبقاء والخلد، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا يزيدون على أسنانهم.
ويدورون عليهم بآنية شرابهم ﴿بِأَكْوَابٍ﴾ وهي التي لا عرى لها، ﴿وَأَبَارِيقَ﴾ الأواني التي لها عرى، ﴿وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ﴾ أي: من خمر لذيذ المشرب، لا آفة فيها.
﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا﴾ أي: لا تصدعهم رءوسهم كما تصدع خمرة الدنيا رأس شاربها.
ولا هم عنها ينزفون، أي: لا تنزف عقولهم، ولا تذهب أحلامهم منها، كما يكون لخمر الدنيا.
والحاصل: أن جميع (١) ما في الجنة من أنواع النعيم الموجود جنسه في الدنيا، لا يوجد في الجنة فيه آفة، كما قال تعالى: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ وذكر هنا خمر الجنة، ونفى عنها كل آفة توجد في الدنيا.
﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ أي: مهما تخيروا، وراق في أعينهم، واشتهته نفوسهم، من أنواع الفواكه الشهية، والجنى اللذيذ، حصل لهم على أكمل وجه وأحسنه.
﴿وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ﴾ أي: من كل صنف من الطيور يشتهونه، ومن أي جنس من لحمه أرادوا، وإن شاءوا مشويا، أو طبيخا، أو غير ذلك.
﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ أي: ولهم حور عين، والحوراء: التي في عينها كحل وملاحة، وحسن وبهاء، والعين: حسان الأعين وضخامها (٢) وحسن العين في الأنثى، من أعظم الأدلة على حسنها وجمالها.
﴿كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ أي: كأنهن اللؤلؤ الأبيض الرطب الصافي البهي، المستور عن الأعين والريح والشمس، الذي يكون لونه من أحسن الألوان، الذي لا عيب فيه بوجه من الوجوه، فكذلك الحور العين، لا عيب فيهن [بوجه]، بل هن كاملات الأوصاف، جميلات النعوت.
فكل ما تأملته منها لم تجد فيه إلا ما يسر الخاطر (٣) ويروق الناظر.
وذلك النعيم المعد لهم ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فكما حسنت منهم الأعمال، أحسن الله لهم الجزاء، ووفر لهم الفوز والنعيم.
﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا﴾ أي: لا يسمعون في جنات النعيم كلاما يلغى، ولا يكون فيه فائدة، ولا كلاما يؤثم صاحبه.
﴿إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا﴾ أي: إلا كلاما طيبا، وذلك لأنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إلا كل طيب، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب كلام، وأسره للنفوس (٤) وأسلمه من كل لغو وإثم، نسأل الله من فضله.
(٢) كذا في ب، وفي أ: ضخام الأعين.
(٣) في ب: القلب.
(٤) في ب: للقلوب.
﴿٢٧﴾ ثم ذكر نعيم أصحاب اليمين فقال: (١) ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ أي: شأنهم عظيم، وحالهم جسيم.
﴿فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ﴾ أي: مقطوع ما فيه من الشوك والأغصان [الرديئة] المضرة، مجعول مكان ذلك الثمر الطيب، وللسدر من الخواص، الظل الظليل، وراحة الجسم فيه.
﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ والطلح معروف، وهو شجر [كبار] يكون بالبادية، تنضد أغصانه من الثمر اللذيذ الشهي.
﴿وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ﴾ أي: كثير -[٨٣٤]- من العيون والأنهار السارحة، والمياه المتدفقة.
﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ أي: ليست بمنزلة فاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات، وتكون ممتنعة [أي: متعسرة] على مبتغيها، بل هي على الدوام موجودة، وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال يكون.
﴿وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ﴾ أي: مرفوعة فوق الأسرة ارتفاعا عظيما، وتلك الفرش من الحرير والذهب واللؤلؤ وما لا يعلمه إلا الله.
﴿إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً﴾ أي: إنا أنشأنا نساء أهل الجنة نشأة غير النشأة التي كانت في الدنيا، نشأة كاملة لا تقبل الفناء.
﴿فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا﴾ صغارهن وكبارهن.
وعموم ذلك، يشمل الحور العين ونساء أهل الدنيا، وأن هذا الوصف -وهو البكارة- ملازم لهن في جميع الأحوال، كما أن كونهن ﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ ملازم لهن في كل حال، والعروب: هي المرأة المتحببة إلى بعلها بحسن لفظها، وحسن هيئتها ودلالها وجمالها [ومحبتها]، فهي التي إن تكلمت سبت العقول، وود السامع أن كلامها لا ينقضي، خصوصا عند غنائهن بتلك الأصوات الرخيمة والنغمات المطربة، وإن نظر إلى أدبها وسمتها ودلها ملأت قلب بعلها فرحا وسرورا، وإن برزت (٢) من محل إلى آخر، امتلأ ذلك الموضع منها ريحا طيبا ونورا، ويدخل في ذلك الغنجة عند الجماع.
والأتراب اللاتي على سن واحدة، ثلاث وثلاثين سنة، التي هي غاية ما يتمنى ونهاية سن الشباب، فنساؤهم عرب أتراب، متفقات مؤتلفات، راضيات مرضيات، لا يحزن ولا يحزن، بل هن أفراح النفوس، وقرة العيون، وجلاء الأبصار.
﴿لأصْحَابِ الْيَمِينِ﴾ أي: معدات لهم مهيئات.
﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ أي: هذا القسم من أصحاب اليمين عدد كثير من الأولين، وعدد كثير من الآخرين.
(٢) في ب: وإن انتقلت.