﴿١٠-١٤﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾.
هذه وصية ودلالة وإرشاد من أرحم الراحمين لعباده المؤمنين، لأعظم تجارة، وأجل مطلوب، وأعلى مرغوب، يحصل بها النجاة من العذاب الأليم، والفوز بالنعيم المقيم.
وأتى بأداة العرض الدالة على أن هذا أمر يرغب فيه كل متبصر، ويسمو إليه كل لبيب، فكأنه قيل: ما هذه التجارة التي هذا قدرها؟ فقال ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
ومن المعلوم أن الإيمان التام هو التصديق الجازم بما أمر الله بالتصديق به، المستلزم لأعمال الجوارح، ومن أجل أعمال الجوارح الجهاد في سبيل الله (١) فلهذا قال: ﴿وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾ بأن تبذلوا نفوسكم ومهجكم، لمصادمة أعداء الإسلام، والقصد نصر دين الله وإعلاء كلمته، وتنفقون ما تيسر من أموالكم في ذلك المطلوب، فإن ذلك، ولو (٢) كان كريها للنفوس شاقا عليها، فإنه ﴿خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فإن فيه الخير الدنيوي، من النصر على الأعداء، والعز المنافي للذل والرزق الواسع، وسعة الصدر وانشراحه.
وفي الآخرة الفوز (٣) بثواب الله والنجاة من عقابه، ولهذا ذكر الجزاء في الآخرة، فقال: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ وهذا شامل للصغائر والكبائر، فإن الإيمان بالله والجهاد في سبيله، مكفر للذنوب، ولو كانت كبائر.
﴿وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ أي: من تحت مساكنها [وقصورها] وغرفها وأشجارها، أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات، ﴿وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ أي: جمعت كل طيب، من علو وارتفاع، وحسن بناء وزخرفة، حتى إن أهل الغرف من أهل -[٨٦١]- عليين، يتراءاهم أهل الجنة كما يتراءى الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي، وحتى إن بناء الجنة بعضه من لبن ذهب [وبعضه من] لبن فضة، وخيامها من اللؤلؤ والمرجان، وبعض المنازل من الزمرد والجواهر الملونة بأحسن الألوان، حتى إنها من صفائها يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وفيها من الطيب والحسن ما لا يأتي عليه وصف الواصفين، ولا خطر على قلب أحد من العالمين، لا يمكن أن يدركوه حتى يروه، ويتمتعوا بحسنه وتقر أعينهم به، ففي تلك الحالة، لولا أن الله خلق أهل الجنة، وأنشأهم نشأة كاملة لا تقبل العدم، لأوشك أن يموتوا من الفرح، فسبحان من لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه عباده (٤) وتبارك الجليل الجميل، الذي أنشأ دار النعيم، وجعل فيها من الجلال والجمال ما يبهر عقول الخلق ويأخذ بأفئدتهم.
وتعالى من له الحكمة التامة، التي من جملتها، أنه الله لو أرى الخلائق الجنة حين خلقها (٥) ونظروا إلى ما فيها من النعيم لما تخلف عنها أحد، ولما هناهم العيش في هذه الدار المنغصة، المشوب نعيمها بألمها، وسرورها (٦) بترحها.
وسميت الجنة جنة عدن، لأن أهلها مقيمون فيها، لا يخرجون منها أبدا، ولا يبغون عنها حولا ذلك الثواب الجزيل، والأجر الجميل، الفوز العظيم، الذي لا فوز مثله، فهذا الثواب الأخروي.
وأما الثواب الدنيوي لهذه التجارة، فذكره بقوله: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا﴾ أي: ويحصل لكم خصلة أخرى تحبونها وهي: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [لكم] على الأعداء، يحصل به العز والفرح، ﴿وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ تتسع به دائرة الإسلام، ويحصل به الرزق الواسع، فهذا جزاء المؤمنين المجاهدين، وأما المؤمنون من غير أهل الجهاد، [إذا قام غيرهم بالجهاد] (٧) فلم يؤيسهم الله تعالى من فضله وإحسانه، بل قال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: بالثواب العاجل والآجل، كل على حسب إيمانه، وإن كانوا لا يبلغون مبلغ المجاهدين في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله " (٨)
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ﴾ [أي:] بالأقوال والأفعال، وذلك بالقيام بدين الله، والحرص على إقامته (٩) على الغير، وجهاد من عانده ونابذه، بالأبدان والأموال، ومن نصر الباطل بما يزعمه من العلم ورد الحق، بدحض حجته، وإقامة الحجة عليه، والتحذير منه.
ومن نصر دين الله، تعلم كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، [والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر].
ثم هيج الله المؤمنين بالاقتداء بمن قبلهم من الصالحين بقوله: ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ﴾ أي: قال لهم عارضا ومنهضا (١٠) من يعاونني ويقوم معي في نصرتي لدين الله، ويدخل مدخلي، ويخرج مخرجي؟
فابتدر الحواريون، فقالوا: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ فمضى عيسى عليه السلام على أمر الله ونصر دينه، هو ومن معه من الحواريين، ﴿فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ بسبب دعوة عيسى والحواريين، ﴿وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾ منهم، فلم ينقادوا لدعوتهم، فجاهد المؤمنون الكافرين، ﴿فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ﴾ أي: قويناهم ونصرناهم عليهم.
﴿فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ عليهم وقاهرين [لهم]، فأنتم يا أمة محمد، -[٨٦٢]- كونوا أنصار الله ودعاة دينه، ينصركم الله كما نصر من قبلكم، ويظهركم على عدوكم.
تمت ولله الحمد (١١)

(١) في ب: التي من أجلها الجهاد في سبيله.
(٢) في ب: وإن كان.
(٣) في ب: والخير الأخروي بالفوز.
(٤) في ب: أحد من خلقه.
(٥) في ب: أنه لو رأى العباد الجنة.
(٦) في ب: وفرحها.
(٧) زيادة من هامش ب.
(٨) في ب جاء بدلا من هذا الحديث ما يلي: [كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا، وجبت له الجنة) فعجب لها أبو سعيد الخدري- راوي الحديث - فقال: أعدها علي يا رسول الله، فأعادها عليه ثم قال: (وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) فقال: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله) رواه مسلم.
(٩) في ب: تنفيذه.
(١٠) في ب: قال لهم منبها.
(١١) في ب: تم تفسيرها والحمد لله رب العالمين.


الصفحة التالية
Icon