﴿١٣ - ١٨﴾ ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾
لما ذكر ما فعله تعالى بالمكذبين لرسله وكيف جازاهم وعجل لهم العقوبة في الدنيا وأن الله نجى الرسل وأتباعهم كان هذا مقدمة لذكر الجزاء الأخروي وتوفية الأعمال كاملة يوم القيامة. فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام القيامة وأن أول ذلك أنه ينفخ إسرافيل ﴿فِي الصُّورِ﴾ إذا تكاملت الأجساد نابتة. ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ فتخرج الأرواح فتدخل كل روح في جسدها فإذا الناس قيام لرب العالمين.
﴿وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ أي: فتتت الجبال واضمحلت وخلطت بالأرض ونسفت على الأرض فكان الجميع قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. هذا ما يصنع بالأرض وما عليها.
وأما ما يصنع بالسماء، فإنها تضطرب وتمور وتتشقق ويتغير لونها، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمر عظيم أزعجها، وكرب جسيم هائل أوهاها وأضعفها.
﴿وَالْمَلَكُ﴾ أي: الملائكة الكرام ﴿عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربهم، مستكينين لعظمته.
﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ أملاك في غاية القوة إذا أتى للفصل بين العباد والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله.
ولهذا قال: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ﴾ على الله ﴿لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ لا من أجسامكم وأجسادكم (١) ولا من أعمالكم [وصفاتكم]، فإن الله تعالى عالم الغيب والشهادة.
ويحشر العباد حفاة عراة غرلا في أرض مستوية، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فحينئذ يجازيهم بما عملوا، ولهذا ذكر كيفية الجزاء، فقال:

(١) في ب: لا من أجسادكم وذواتكم.

﴿١٩ - ٢٤﴾ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾.
وهؤلاء هم أهل السعادة يعطون كتبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزا لهم وتنويها بشأنهم ورفعا لمقدارهم، ويقول أحدهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبة أن يطلع الخلق على ما من الله عليه به من الكرامة: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ﴾ أي: دونكم كتابي فاقرأوه فإنه يبشر بالجنات، وأنواع الكرامات، ومغفرة الذنوب، وستر العيوب.
والذي أوصلني إلى هذه الحال، ما من الله به علي من الإيمان بالبعث والحساب، والاستعداد له بالممكن من العمل، ولهذا قال: ﴿إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ﴾ أي: أيقنت فالظن -هنا-[بمعنى] اليقين.
﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، وقد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها.
﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ المنازل والقصور عالية المحل.
﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ أي: ثمرها وجناها من أنواع الفواكه قريبة، سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلها قياما وقعودا ومتكئين.
ويقال لهم إكراما: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا﴾ أي: من كل طعام لذيذ، وشراب شهي، ﴿هَنِيئًا﴾ أي: تاما كاملا من غير مكدر ولا منغص.
وذلك الجزاء حصل لكم ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ من الأعمال الصالحة -وترك الأعمال السيئة- (١) من صلاة وصيام وصدقة وحج وإحسان إلى الخلق، وذكر لله وإنابة إليه.
(١) هكذا في المخطوطتين وقد جاءت جملة: (وترك الأعمال الشيئة) بين جملة (الأعمال الصالحة) وتفصيل تلك الأعمال فصار في الكلام نوع إيهام مما دفع إلى تأخير جملة: وترك. في الطبعات السابقة، وقد جعلت الكلام كما هو مع الإشارة إلى أنها جملة معترضة.

فالأعمال جعلها الله سببا لدخول الجنة ومادة لنعيمها وأصلا لسعادتها.
-[٨٨٤]-
﴿٢٥ - ٣٧﴾ ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.
هؤلاء أهل الشقاء يعطون كتب أعمالهم السيئة (١) بشمالهم تمييزا لهم وخزيا وعارا وفضيحة، فيقول أحدهم من الهم والغم والخزي (٢) ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ لأنه يبشر بدخول النار والخسارة الأبدية.
﴿وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ﴾ أي: ليتني كنت نسيا منسيا ولم أبعث وأحاسب ولهذا قال:
﴿يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ أي:: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بعث بعدها.
ثم التفت إلى ماله وسلطانه، فإذا هو وبال عليه لم يقدم منه لآخرته، ولم ينفعه في الافتداء من عذاب الله (٣) فيقول: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ أي: ما نفعني لا في الدنيا، لم أقدم منه شيئا، ولا في الآخرة، قد ذهب وقت نفعه.
﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ أي: ذهب واضمحل فلم تنفع الجنود الكثيرة، ولا العدد الخطيرة، (٤) ولا الجاه العريض، بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح، وحضر بدله الهموم والغموم والأتراح، فحينئذ يؤمر بعذابه فيقال للزبانية الغلاظ الشداد: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ﴾ أي: اجعلوا في عنقه غلا يخنقه.
﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ﴾ أي: قلبوه على جمرها ولهبها.
﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا﴾ من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾ أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه، ويعلق فيها، فلا يزال يعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب، وواحسرة من له التوبيخ والعتاب.
فإن السبب الذي أوصله إلى هذا المحل: ﴿إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ بأن كان كافرا بربه معاندا لرسله رادا ما جاءوا به من الحق.
﴿وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ أي: ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين فلا يطعمهم [من ماله] ولا يحض غيره على إطعامهم، لعدم الوازع في قلبه، وذلك لأن مدار السعادة ومادتها أمران: الإخلاص لله، الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق بوجوه الإحسان، الذي من أعظمها، دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما يتقوتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان، فلذلك استحقوا ما استحقوا.
(١) في ب: كتبهم المشتملة على أعمالهم السيئة.
(٢) في ب: الحزن.
(٣) في ب: ولا ينفعه لو افتدى به من العذاب.
(٤) في ب: فلم تنفع الجنود ولا الكثرة ولا العدد ولا العدد.


الصفحة التالية
Icon