ورغبهم أيضا، بخير الدنيا العاجل، فقال: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ أي: مطرا متتابعا، يروي الشعاب والوهاد، ويحيي البلاد والعباد.
﴿وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ أي: يكثر أموالكم التي تدركون بها ما تطلبون من الدنيا وأولادكم، ﴿وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ وهذا من أبلغ ما يكون من لذات الدنيا ومطالبها.
﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ أي: لا تخافون لله عظمة، وليس لله عندكم قدر.
﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ أي: خلقا [من] بعد خلق، في بطن الأم، ثم في الرضاع، ثم في سن الطفولية، ثم التمييز، ثم الشباب، إلى آخر ما وصل إليه الخلق (١)، فالذي انفرد بالخلق والتدبير البديع، متعين أن يفرد بالعبادة والتوحيد، وفي ذكر ابتداء خلقهم تنبيه لهم على الإقرار بالمعاد، وأن الذي أنشأهم من العدم قادر على أن يعيدهم بعد موتهم.
واستدل أيضا عليهم بخلق السماوات التي هي أكبر من خلق الناس، فقال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ أي: كل سماء فوق الأخرى.
﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا﴾ لأهل الأرض ﴿وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾.
ففيه تنبيه على عظم خلق هذه الأشياء، وكثرة المنافع في الشمس والقمر الدالة على رحمته وسعة إحسانه، فالعظيم الرحيم، يستحق أن يعظم ويحب ويعبد ويخاف ويرجى.
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا﴾ حين خلق أباكم آدم وأنتم في صلبه.
﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا﴾ عند الموت ﴿وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ للبعث والنشور، فهو الذي يملك الحياة والموت والنشور.
﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا﴾ أي: مبسوطة مهيأة للانتفاع بها.
﴿لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا﴾ فلولا أنه بسطها، لما أمكن ذلك، بل ولا أمكنهم حرثها وغرسها وزرعها، والبناء، والسكون على ظهرها.
﴿قَالَ نُوحٌ﴾ شاكيا لربه: إن هذا الكلام والوعظ والتذكير ما نجع فيهم ولا أفاد.
﴿إِنَّهُمْ عَصَوْنِي﴾ فيما أمرتهم به ﴿وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا﴾ أي: عصوا الرسول الناصح الدال على الخير، واتبعوا الملأ والأشراف الذين لم تزدهم أموالهم ولا أولادهم إلا خسارا أي: هلاكا وتفويتا للأرباح فكيف بمن انقاد لهم وأطاعهم؟!
﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ أي: مكرا كبيرا بليغا في معاندة الحق.
﴿وَقَالُوا﴾ لهم داعين إلى الشرك مزينين له: ﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ﴾ فدعوهم إلى التعصب على ما هم عليه من الشرك، وأن لا يدعوا ما عليه آباؤهم الأقدمون، ثم عينوا آلهتهم فقالوا: ﴿وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم لينشطوا -بزعمهم- على الطاعة إذا رأوها، ثم طال الأمد، وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان: إن أسلافكم يعبدونهم، ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ولهذا أوصى رؤساؤهم للتابعين لهم أن لا يدعوا عبادة هذه الآلهة (٢).
﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾ أي: وقد أضل الكبار والرؤساء بدعوتهم كثيرا من الخلق، ﴿وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا﴾ أي: لو كان ضلالهم عند دعوتي إياهم بحق، لكان مصلحة، ولكن لا يزيدون بدعوة الرؤساء إلا ضلالا أي: فلم يبق محل لنجاحهم ولا لصلاحهم، ولهذا ذكر الله عذابهم وعقوبتهم الدنيوية والأخروية، فقال: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ في اليم الذي أحاط بهم ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا﴾ فذهبت أجسادهم في الغرق وأرواحهم للنار والحرق، وهذا كله بسبب خطيئاتهم، التي أتاهم نبيهم نوح ينذرهم عنها، ويخبرهم بشؤمها ومغبتها، فرفضوا ما قال، حتى حل بهم النكال، ﴿فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾ ينصرونهم حين نزل بهم الأمر الأمر، ولا أحد يقدر يعارض القضاء والقدر.
﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ يدور على وجه الأرض، وذكر السبب في ذلك فقال: ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ أي: بقاؤهم مفسدة محضة، لهم ولغيرهم، وإنما قال نوح -عليه السلام- ذلك، لأنه مع كثرة مخالطته إياهم، ومزاولته لأخلاقهم، علم بذلك نتيجة أعمالهم، لا جرم أن الله استجاب دعوته (٣)، فأغرقهم أجمعين ونجى نوحا ومن معه من المؤمنين.
-[٨٩٠]-
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾ خص المذكورين لتأكد حقهم وتقديم برهم، ثم عمم الدعاء، فقال: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا﴾ أي: خسارا ودمارا وهلاكا.
تم تفسير سورة نوح عليه السلام [والحمد لله]

(١) في ب: ثم إلى آخر ما يصل إليه الخلق.
(٢) في ب: هذه الأصنام.
(٣) في ب: فلهذا استجاب الله له دعوته.


الصفحة التالية
Icon