﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾ أي: نعاس ﴿وَلا نَوْمٌ﴾ ؛ لأن السنة والنوم، إنما يعرضان للمخلوق، الذي يعتريه الضعف، والعجز، والانحلال، ولا يعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال.
وأخبر أنه مالك جميع ما في السماوات والأرض فكلهم عبيد لله مماليك، لا يخرج أحد منهم عن هذا الطور، ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ فهو المالك لجميع الممالك، وهو الذي له صفات الملك والتصرف، والسلطان، والكبرياء.
ومن تمام ملكه أنه لا ﴿يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ أحد ﴿إِلا بِإِذْنِهِ﴾ فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك، لا يقدمون على شفاعة حتى يأذن لهم. ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى، ولا يرتضي إلا توحيده، واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا، فليس له في الشفاعة نصيب.
ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط، وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق، من الأمور المستقبلة، التي لا نهاية لها ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ من الأمور الماضية التي لا حد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
وأن الخلق لا يحيط أحد بشيء من علم الله ومعلوماته ﴿إِلا بِمَا شَاءَ﴾ منها وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية، وهو جزء يسير جدا مضمحل في علوم الباري ومعلوماته، كما قال أعلم الخلق به، وهم الرسل والملائكة: ﴿سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا﴾
ثم أخبر عن عظمته وجلاله، وأن كرسيه، وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات، التي جعلها الله في المخلوقات.
ومع ذلك فـ ﴿لا يَئُودُهُ﴾ أي: يثقله حفظهما، لكمال عظمته، واقتداره، وسعة حكمته في أحكامه.
﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ بذاته، على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب.
﴿الْعَظِيمُ﴾ الجامع، لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلت عن الصفة، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.
فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني، يحق أن تكون أعظم آيات القرآن، ويحق لمن قرأها، متدبرا متفهما، أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان.
﴿٢٥٦﴾ ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته، وكونه هو دين العقل والعلم، ودين الفطرة والحكمة، ودين الصلاح والإصلاح، ودين الحق والرشد، فلكماله وقبول الفطرة له، لا يحتاج إلى الإكراه عليه؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق، أو لما تخفى براهينه وآياته، وإلا فمن جاءه هذا الدين، ورده ولم يقبله، فإنه لعناده.
فإنه قد تبين الرشد من الغي، فلم يبق لأحد عذر ولا حجة، إذا رده ولم يقبله، ولا منافاة بين هذا المعنى، وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين.
وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماض مع البر والفاجر، وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي والجهاد الفعلي.
فمن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد، فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف، لفظا ومعنى، كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة، كما نبهنا عليه.
ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين: قسم آمن بالله وحده لا شريك له، وكفر بالطاغوت- وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره-، فهذا قد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها، بل هو مستقيم على الدين الصحيح، حتى يصل به إلى الله؛ وإلى دار كرامته.
ويؤخذ القسم الثاني من مفهوم الآية، أن من لم يؤمن بالله، بل كفر به، وآمن بالطاغوت، فإنه هالك هلاكا أبديا، ومعذب عذابا سرمديا.
وقوله: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ﴾ أي: لجميع الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات، وسميع لدعاء الداعين، وخضوع المتضرعين.
﴿عَلِيمٌ﴾ بما أكنته الصدور، وما خفي من خفايا الأمور، فيجازي كل أحد بحسب ما يعلمه، من نياته وعمله.
﴿٢٥٧﴾ ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هذه الآية مترتبة على الآية التي قبلها، فالسابقة هي الأساس، وهذه هي الثمرة.
فأخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله، وصدقوا إيمانهم، بالقيام بواجبات الإيمان، وترك كل ما ينافيه، أنه وليهم، يتولاهم بولايته الخاصة، ويتولى تربيتهم، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإيمان، والطاعة والإقبال الكامل على ربهم، وينور قلوبهم بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى.
وأما الذين كفروا، فإنهم لما تولوا غير وليهم، ولّاهم الله ما تولوا لأنفسهم، وخذلهم، ووكلهم إلى رعاية من تولاهم، ممن ليس عنده نفع ولا ضر، فأضلوهم وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع والعمل الصالح وحرموهم السعادة، وصارت النار مثواهم، خالدين فيها مخلدين.
اللهم تولنا فيمن توليت.
﴿٢٥٨﴾ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين، ما به تتبين الحقائق، وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد.