ضعيف قد أصابه الكبر.
فهذه الحال من أفظع الأحوال، ولهذا صدر هذا المثل بقوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ﴾ إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته، فإن تلفها دفعة واحدة، بعد زهاء أشجارها، وإيناع ثمارها، مصيبة كبرى.
ثم حصول هذه الفاجعة- وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل، وله ذرية ضعفاء، لا مساعدة منهم له، ومؤنتهم عليه- فاجعة أخرى، فصار صاحب هذا المثل، الذي عمل لله، ثم أبطل عمله بمناف له، يشبه حال صاحب الجنة، التي جرى عليها ما جرى، حين اشتدت ضرورته إليها.
المثل الثالث: الذي يرائي الناس، وليس معه إيمان بالله، ولا احتساب لثوابه، حيث شبه قلبه بالصفوان، وهو الحجر الأملس، عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر، أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة، ولكنه كالحجر، الذي أصابه الوابل الشديد، فأذهب ما عليه من التراب، وتركه صلدا.
وهذا مثل مطابق لقلب المرائي، الذي ليس فيه إيمان، بل هو قاس لا يلين ولا يخشع.
فهذا أعماله ونفقاته لا أصل لها، تؤسس عليه، ولا غاية لها، تنتهي إليها، بل ما عمله، فهو باطل، لعدم شرطه.
والذي قبله بطل بعد وجود الشرط، لوجود المانع، والأول مقبول مضاعف، لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات، وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة، تنطبق على جميع العاملين، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة، والأمثال المطابقة. ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ﴾.
﴿٢٦٧- ٢٦٨﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ يحث الباري عباده على الإنفاق مما كسبوا في التجارات، ومما أخرج لهم من الأرض، من الحبوب والثمار، وهذا يشمل زكاة النقدين، والعروض كلها، المعدة للبيع والشراء، والخارج من الأرض، من الحبوب والثمار، ويدخل في عمومها الفرض والنفل.
وأمر تعالى أن يقصدوا الطيب منها، ولا يقصدوا الخبيث، وهو الرديء الدون، يجعلونه لله، ولو بذله لهم من لهم حق عليه، لم يرتضوه ولم يقبلوه إلا على وجه المغاضاة والإغماض.
فالواجب إخراج الوسط من هذه الأشياء، والكمال إخراج العالي، والممنوع إخراج الرديء، فإن هذا لا يجزئ عن الواجب، ولا يحصل فيه الثواب التام في المندوب.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ فهو غني عن جميع المخلوقين، وهو الغني عن نفقات المنفقين، وعن طاعات الطائعين، وإنما أمرهم بها، وحثهم عليها، لنفعهم، ومحض فضله وكرمه عليهم.
ومع كمال غناه، وسعة عطاياه، فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام.
وحميد في أفعاله، التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة، وحميد الأوصاف، لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات، لا يبلغ العباد كنهها، ولا يدركون وصفها.
﴿٢٦٨﴾ فلما حثهم على الإنفاق النافع، ونهاهم عن الإمساك الضار، بين لهم أنهم بين داعيين:
داعي الرحمن، يدعوهم إلى الخير، ويعدهم عليه الخير، والفضل والثواب العاجل والآجل، وإخلاف ما أنفقوا.
وداعي الشيطان، الذي يحثهم على الإمساك ويخوفهم، إن أنفقوا أن يفتقروا، فمن كان مجيبا لداعي الرحمن، وأنفق مما رزقه الله، فليبشر بمغفرة الذنوب، وحصول كل مطلوب، ومن كان مجيبا لداعي الشيطان، فإنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فليختر العبد أي الأمرين أليق به.
وختم الآية بأنه ﴿وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي: واسع الصفات، كثير الهبات، عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين، وعليم بمن هو أهل، فيوفقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات.
﴿٢٦٩﴾ ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ لما ذكر أحوال المنفقين للأموال، وأن الله أعطاهم، ومن عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية، وينالون بها المقامات السنية، ذكر ما هو أفضل من ذلك، وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده، ومن أراد بهم خيرا من خلقه.
والحكمة هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال.
وهذا أفضل العطايا، وأجل الهبات، ولهذا قال: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ ؛ لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع، في دينهم ودنياهم.
وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام والإحجام في موضع الإحجام.
ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم. ﴿إِلا أُولُو الأَلْبَابِ﴾ وهم أهل العقول الوافية، والأحلام الكاملة، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه، والضار فيتركونه.
وهذان الأمران، وهما بذل النفقات المالية، وبذل الحكمة العلمية، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات.
وهما اللذان ذكرهما النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس).
﴿٢٧٠- ٢٧١﴾ ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ يخبر تعالى، أنه مهما أنفق المنفقون أو تصدق المتصدقون، أو نذر الناذرون، فإن الله يعلم ذلك.


الصفحة التالية
Icon