من أجل مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه.
﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ يعلم من يستحق الفضل والتفضيل، فيضع فضله حيث اقتضت حكمته.
﴿٣٤- ٣٦﴾ فلما قرر عظمة هذه البيوت، ذكر قصة مريم وابنها عيسى -صلى الله عليه وسلم-، وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة، وكيف تنقلت بهما الأحوال، من ابتداء أمرهما إلى آخره، وأن امرأة عمران، قالت- متضرعة إلى ربها، متقربة إليه بهذه القربة التي يحبها، التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته -: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾ أي: خادما لبيت العبادة، المشحون بالمتعبدين.
﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ هذا العمل، أي: اجعله مؤسسا على الإيمان والإخلاص، مثمرا للخير والثواب، ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾
كان في هذا الكلام نوع تضرع منها، وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا، يحصل منه من القوة والخدمة والقيام بذلك، ما يحصل من أهل القوة، والأنثى بخلاف ذلك، فجبر الله قلبها، وتقبل الله نذرها، وصارت هذه الأنثى، أكمل وأتم من كثير من الذكور، بل من أكثرهم، وحصل بها من المقاصد، أعظم مما يحصل بالذكر، ولهذا قال: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ أي: ربيت تربية عجيبة، دينية، أخلاقية، أدبية، كملت بها أحوالها، وصلحت بها أقوالها وأفعالها، ونما فيها كمالها، ويسر الله لها زكريا كافلا.
وهذا من منة الله على العبد، أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين.
﴿٣٧- ٣٩﴾ ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا، حيث يسر لمريم من الرزق الحاصل بلا كد ولا تعب، وإنما هو كرامة أكرمها الله به.
إذ ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ وهو محل العبادة، وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها، ﴿وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ هنيئا معدا.
﴿قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
فلما رأى زكريا هذه الحال، والبر واللطف من الله بها، ذكره أن يسأل الله تعالى حصول الولد، على حين اليأس منه، فقال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ﴾ اسمه أي: الكلمة التي من الله "عيسى ابن مريم".
فكانت بشارته بهذا النبي الكريم، تتضمن البشارة بـ "عيسى" ابن مريم، والتصديق له، والشهادة له بالرسالة.
فهذه الكلمة من الله، كلمة شريفة، اختص الله بها عيسى ابن مريم، وإلا فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
وقوله: ﴿وَسَيِّدًا وَحَصُورًا﴾ أي: هذا المبشر به وهو يحيى، سيد من فضلاء الرسل وكرامهم: "والحصور"، قيل: هو الذي لا يولد له، ولا شهوة له في النساء، وقيل: هو الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة، وهذا أليق المعنيين.
﴿وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين بلغوا في الصلاح ذروته العالية.
﴿٤٠﴾ ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ فهذان مانعان، فمن أي طريق- يا رب- يحصل لي ذلك، مع ما ينافي ذلك؟!
﴿قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ فإنه كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة، فإنه قد يخرق ذلك، لأنه الفعال لما يريد، الذي قد انقادت الأسباب لقدرته، ونفذت فيها مشيئته وإرادته، فلا يتعاصى على قدرته شيء من الأسباب، ولو بلغت في القوة، ما بلغت.
﴿٤١﴾ ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ ليحصل السرور والاستبشار، وإن كنت- يا رب- متيقنا ما أخبرتني به، ولكن النفس تفرح، ويطمئن القلب إلى مقدمات الرحمة واللطف.
﴿قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا﴾ (و) في هذه المدة ﴿اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ﴾ أول النهار وآخره، فمنع من الكلام في هذه المدة، فكان في هذا، مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ الكبير، والمرأة العاقر.
وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين، ولسانه منطلق بذكر الله، وتسبيحه، آية أخرى.
فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار، وشكر الله، وأكثر من الذكر والتسبيح بالعشايا والأبكار.
و، كان هذا المولود من بركات مريم بنت عمران، على زكريا، فإن ما من الله به عليها، من ذلك الرزق الهني، الذي يحصل بغير حساب، ذكره وهيجه على التضرع والسؤال، والله تعالى هو المتفضل بالسبب والمسبب، ولكنه يقدر أمورا محبوبة على يد من يحبه، ليرفع الله قدره، ويعظم أجره.
﴿٤٢﴾ ثم عاد تعالى إلى ذكر مريم، وأنها بلغت في العبادة والكمال، مبلغا عظيما، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ﴾ أي: اختارك، ووهب لك من الصفات الجليلة، والأخلاق الجميلة.
﴿وَطَهَّرَكِ﴾ من الأخلاق الرذيلة، ﴿وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء، كفضل الثريد على سائر الطعام).
﴿٤٣﴾ فنادتها الملائكة عن أمر الله لها بذلك، لتغتبط بنعم الله، وتشكر الله، وتقوم بحقوقه، وتشتغل بخدمته، ولهذا قالت الملائكة: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أي: أكثري من الطاعة، والخضوع والخشوع لربك، وأديمي ذلك ﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أي: صلي مع المصلين، فقامت بكل ما أمرت به وبرزت، وفاقت في كمالها.
ولما كانت هذه القصة وغيرها من أكبر الأدلة على رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث أخبر بها مفصلة محققة، لا زيادة فيها ولا نقص، وما ذاك إلا لأنه وحي من الله العزيز الحكيم، لا بتعلم من الناس- قال تعالى -: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ حيث جاءت بها أمها،