بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤] فهو على حد قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: ٥٢] ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به، ففي سنن الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحارث بن قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن مسعود عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفضيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، ويا ليت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سكن لوعة الحارث بما
ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا «نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني»
وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهدا بها، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من يؤمنون وكذا كل همزة ساكنة قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل لا يُؤاخِذُكُمُ [البقرة: ٢٢٥] ويُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ [آل عمران: ١٣] وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل يُهَيِّئْ لَكُمْ [الكهف: ١٦] وَنَبِّئْهُمْ [الحجر: ٥١، القمر: ٢٨] واقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء: ١٤] فإنه لا يترك الهمزة فيها وروي عنه أيضا الهمز في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو «يؤمنون» و «لا يؤاخذكم» واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره وَيُقِيمُونَ من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: ٦٨] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى يقيمون الصلاة يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أولها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون (١) من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه، وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم استعير الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها، وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز مشهور أو حقيقة عرفية، وفي الثاني بأن نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن

(١) فإن قلت إذا كان بمعنى المداومة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها تتعدى بها كما في قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أجيب بأنه إذا تجوز بلفظ عن معنى آخر وكان عملهما في الحرف الذي تعديا به مختلفا يجوز فيه إعمال عمل لفظ الحقيقة وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالترشيح والتجريد ألا ترى ان نطقت الحال يعني دلت وتعديه بعلى اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon