لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضا قد يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلا، والأحسن الاستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا «والإنفاق» الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله. وقيل: إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض- وهو من الغرابة بمكان- أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه- ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره- ولا يرد على ذلك
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يقبل الله صدقة من غلول»
وقوله: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»
لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. وقد اختلف في الإنفاق هاهنا فقيل- وهو الأولى- صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة، وعنه وعن ابن مسعود نفقة العيال، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعيضية حينئذ مما لا يسأل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا للزمخشري:
إنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، ومن هاهنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير، وقيل النكتة في إدخال من التبعيضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق و «ما» في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذف فاتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل. أما الأول فبأنه لما


الصفحة التالية
Icon