وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده، وقيل: إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقا، وأصل التعذيب على ما قيل: إكثار الضرب بعذبة السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه، والعظيم الكبير، وقيل: فوق الكبير لأن الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبير شريفان والعظيم أشرفهما. فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص- أعم- مما لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير
قوله عز شأنه في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري»
حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع من الأزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة، ويقال: إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو يقال: إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب: إن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجري مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان أو عينا، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها أيضا: عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد، وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم: لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا:
التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب، والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة، وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضا هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضا: هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه- وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه- لامه كل أحد وقيل له: إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام؟! وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، افترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: ٦٠] وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا ب اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨].
بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق، على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الأخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع


الصفحة التالية
Icon