ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء. ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء.

فلي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج
على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى. والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهنة، فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال، كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال، وبعد أن رسخ الحق في قلبك، وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا. وكاذب لا يورثك إلا صدقا «فنقول» أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم اختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل، ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن، وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرىء فهو عرض وإذا كتب فهو جسم، وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات، ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث، وأما الكرامية فقالوا: إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر، وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق اسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا، وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله تعالى قديم، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله تعالى حادث، فقوم (١) ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم براء منها، وآخرون (٢) قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى، وأناس (٣) لما رأوا مخالفة الأولين
(١) هم الحنابلة اهـ منه.
(٢) هم المعتزلة اهـ منه.
(٣) هم الكرامية اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon