على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم
فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها، أو يستنهض الرجل والخيل، إلا في سبر أغوارها.
أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها، أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها.
إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سلمى فهو دمع مضيع
وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله سبحانه بكلامه المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو الحبل المتين والعروة الوثقى. والصراط المبين، والوزر الأقوى والأوقى، وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم، ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده وفارقت قومي لوصال خرائده. فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، وأطالع- إن أعوز الشمع يوما- على نور القمر، في كثير من ليالي الشهر وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو. ويرقلون في ميادين الزهو. ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح. ويهبون نفائس الأوقات، لنهب خسائس الشهوات. وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم. كأن لبني لبانتي، ووصال سعدي سعادتي. حتى وقفت على كثير من حقائقه، ووفقت لحل وفير من دقائقه. وثقبت- والثناء لله تعالى- من دره بقلم فكري درا مثمنا ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثناء. وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع. وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير. وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير. ولست أنا أول من منّ الله تعالى عليه بذلك، ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك. فكم وكم للزمان ولد مثلي، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي.
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات
إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار، وحياض تيك الأمصار اعتراها اعتصار. فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق، والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجى له نشور.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان، دينهم اقتناص الشوارد وديدنهم افتضاض أبكار الفوائد. يروون فيروون ويقدحون فيورون. لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها.
طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري. وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري. ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال: كتاب الله لي أفضل مؤانس وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس.
نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب
به فنون المعاني قد جمعن فما تفترّ من عجب إلا إلى عجب
أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب
لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب
وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي أن أحبس في قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر أو


الصفحة التالية
Icon