الله تعالى عبد لا يحمده»
وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهدا (١) يتقوى به وإن كان مثله فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه وكان الحمد أظهر الأنواع وأشهرها حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم شبهه صلى الله تعالى عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها والأصل لها والعمدة في بقائها وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس ويفتتح النفيس بالنفيس أو لأنه لو قال جل شأنه الشكر لله كان ثناء عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل والحمد لله ليس كذلك فهو أعلى كعبا وأظهر عبودية ويمكن أن يقال: إن الشكر على الإعطاء وهو متناه والحمد يكون على المنع وهو غير متناه فالابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له ودفع الضر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى، وأيضا مورد الحمد في المشهور خاص ومتعلقه عام والشكر بالعكس موردا ومتعلقا ففي إيراده دونه إشارة قدسية ونكتة على ذوي الكثرة خفية وإلى الله ترجع الأمور وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على التحميد إذ يقال سبحان الله والحمد لله على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والثاني يشير إلى كونه محسنا إلى العباد ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما قادرا غنيا ليعلم مواقع الحاجات فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ولا يشغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، وإن أبيت- ولا أظن- قلنا كل تسبيح حمد وليس كل حمد تسبيحا لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب والحمد بها وبالثبوتية على ما سلف فهو أعم منه بذلك الاعتبار (٢) فافتتح به لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر ولكل مقام مقال والتعريف هنا للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه:

وأرسلها العراك ولم يذدها ولم يشفق على نفض (٣) الدخال
وعليه جمع منهم الزمخشري حتى قال والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم وقد صار هذا معترك الافهام ومزدحم أفكار العلماء الأعلام، فقيل: إنه مبني على مسألة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى ورد بأن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بأقدار الله تعالى وتمكينه فبهذا الاعتبار يرجع الأمر إليه كله وأما حمد غيره فاعتداد بأن النعمة جرت على يده، وقيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة ورد بأنه يجوز في الاستغراق أيضا بأن يجعل ما عدا محامده كالعدم فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في منافاتهما ظاهرا لمذهبه ودفعهما بالعناية، وقيل مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال وهي لا تعد ودلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة القرائن، وقيل إنما اختاره بناء على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر وعند خفاء القرائن ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه
(١)
فعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن إبراهيم سأل ربه فقال يا رب ما جزاء من حمدك؟ قال الحمد مفتاح الشكر والشكر يعرج به إلى رب العرش رب العالمين قال فما جزاء من سبحك؟ قال لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين»
اهـ منه.
(٢)
فعن محمد بن النصر قال قال آدم عليه السلام: يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئا فيه مجامع الحمد والتسبيح فأوحى الله تبارك وتعالى إليه إذا أصبحت فقل ثلاثا وإذا أمسيت فقل ثلاثا الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح
اهـ.
(٣) المعروف في كتب اللغة نغص.


الصفحة التالية
Icon