ويدل عليه قوله تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله سبحانه: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري. وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى: يا مُوسى إلخ يأباه. ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور، وقيل: لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث، واعترض أيضا بأن بُورِكَ إخبار وَأَلْقِ إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الإخبار، ومن هنا قيل: إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له: ألق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك وألق، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمرو بالعطف.
ولا يرد هذا أصلا على من يجعل «بورك» إنشاء، ويرد على من جعل العطف على أفعل محذوفا أن الظاهر حينئذ فألق بالفاء، واختار أبو حيان كون العطف على جملة إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ولم يبال باختلاف الجملتين اسمية وفعلية وإخبارية وإنشائية لما ذكر أن الصحيح عدم اشتراط تناسب الجملتين المتعاطفتين في ذلك لما سمعت آنفا عن سيبويه، والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقه بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل: فألقاها فانقلبت حية فلما أبصرها تتحرك بشدة اضطرب، وجملة تَهْتَزُّ في موضع الحال من مفعول رأى فإنها بصرية كما أشرنا إليه لا علمية كما قيل.
وقوله تعالى: كَأَنَّها جَانٌّ في موضع حال أخرى منه أو هو حال من ضمير تَهْتَزُّ على طريقة التداخل، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة شبهها سبحانه في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها بصغار الحيات السريعة الحركة فلا ينافي هذا قوله تعالى في موضع آخر: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: ١٠٧، الشعراء: ٣٢].
وقيل: يجوز أن يكون الإخبار عنها بصفات مختلفة باعتبار تنقلها فيها، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد:
«جأن» بهمزة مفتوحة هربا من التقاء الساكنين وإن كان على حده كما قيل: دأبة وشأبة.
وَلَّى مُدْبِراً أي انهزم وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال الشاعر:

فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
وهذا مروي عن مجاهد، وقريب منه قول قتادة: أي لم يلتفت وهو الذي ذكره الراغب، وكان ذلك منه عليه السلام لخوف لحقه، قيل: لمقتضى البشرية فإن الإنسان إذ رأى أمرا هائلا جدا يخاف طبعا أو لما أنه ظن أن ذلك لأمر أريد وقوعه به، ويدل على ذلك قوله سبحانه: يا مُوسى لا تَخَفْ أي من غيري أي مخلوق كان حية أو غيرها ثقة بي واعتمادا عليّ أو لا تخف مطلقا على تنزيل الفعل منزلة اللازم، وهذا إما لمجرد الإيناس دون إرادة حقيقة النهي وإما للنهي عن منشأ الخوف وهو الظن الذي سمعته، وقوله تعالى:
إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تعليل للنهي عن الخوف، وهو على ما قيل يؤيد أن الخوف كان للظن المذكور وأن المراد لا تَخَفْ مطلقا، والمراد من لَدَيَّ في حضرة القرب مني وذلك حين الوحي.
والمعنى أن الشأن لا ينبغي للمرسلين أن يخافوا حين الوحي إليهم بل لا يخطر ببالهم الخوف وإن وجد ما يخاف منه لفرط استغراقهم إلى تلقي الأوامر وانجذاب أرواحهم إلى عالم الملكوت، والتقييد بلديّ لأن المرسلين في سائر الأحيان أخوف الناس من الله عز وجل فقد قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] ولا أعلم منهم بالله تعالى شأنه، وقيل: المعنى لا تخف من غيري أو لا تخف مطلقا فإن الذي ينبغي أن يخاف منه أمثالك


الصفحة التالية
Icon