وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها ظُلْماً أي للآيات كقوله تعالى: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الأعراف: ٩] وقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا، وقيل: ظلما لأنفسهم وليس بذاك وَعُلُوًّا أي ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها [الأعراف: ٣٦] وانتصابهما إما على العلية من جَحَدُوا وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله:
لدوا للموت وابنوا للخراب وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين، ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي ما آل إليه فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين، وإنما لم يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاصر. وأدخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الإحراق والعذاب الأليم. وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم.
وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب «وعليا» بقلب الواو ياء وكسر العين واللام، وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعا، وروى ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدن حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير، وخصها مقاتل بعلم القضاء، وابن عطاء بالعلم بالله عز وجل، ولعل الأولى ما ذكر أو علما سنيا غزيرا فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عز وجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة، وربما يرجح الثاني، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعا من العلم والمراد به علم الكيمياء وَقالا أي قال كل منهما شكرا لما أوتيه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز، ومن ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: ٥١] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط.
وتعقب بأنه إذا سلّم ما ذكر فالعطف بالواو أيضا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء، وقال العلامة الزمخشري: عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك: أعطيته فشكر إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه: ولقد آتيناهما علما فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا:
الحمد لله الذي فضلنا، وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجيء بالواو لأنها تستدعي إضمارا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله: فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي، وقوله:
وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبي، وبقوله تعالى: وَقالا إلخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني، وفي


الصفحة التالية
Icon