أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل إلى الحرب والعدول عن السنن الصواب شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان عليه السلام حسبما تعتقده، وذلك قوله تعالى: قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج المقاتلة والحرب أَفْسَدُوها بتخريب عماراتها وإتلاف ما فيها من الأموال.
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال، ولم يقل وأذلوا أعزة أهلها مع أنه أخصر للمبالغة في التصيير والجعل وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تصديق لها من جهته عز وجل على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو هو من كلامها جاءت به تأكيدا لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة فالضمير للملوك، وقيل: هو لسليمان ومن معه فيكون تأسيسا لا تأكيدا. وتعقب بأن التأكيد لازم على ذلك أيضا للاندراج تحت الكلية وكأنها أرادت على ما قيل: إن سليمان ملك والملوك هذا شأنهم وغلبتنا عليه غير محققة ولا اعتماد على العدد والعدة والشجاعة والنجدة فربما يغلبنا فيكون ما يكون فالصلح خير، وقيل: إنها غلب على ظنها غلبته حيث رأت أنه سخر له الطير فجعل يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب فأشارت لهم إلى أنه يغلب عليهم إذا قاتلوه فيفسد القرى ويذل الأعزة وأفسدت بذلك رأيهم وما أحسته منهم من الميل إلى مقاتلته عليه السلام وقررت رأيها بقولها: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ حتى أعمل بما يقتضيه الحال، وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله عليه السلام هديتها.
وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، والهدية اسم لما يهدى كالعطية اسم لما يعطى، والتنوين فيها للتعظيم و (ناظرة) عطف على مُرْسِلَةٌ وبِمَ متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أنه متعلق بناظرة وهو وهم فاحش كما في البحر، والنظر معلق والجملة في موضع المفعول به له والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للإيذان بأنها مزمعة على رأيها لا يلويها عنه صارف ولا يثنيها عاطف.
واختلف في هديتها فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال وهب. وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجوهر وعليه أغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من ذهب ولبنات من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت بالمسك والعنبر والعود وعمدت إلى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بني عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية وقالت فيه: إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه ثم قالت للرسول: فإن أخبر فقل له اثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج أنس ولا جن وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي فتفهم منه قوله ورد الجواب فانطلق الرجل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر عليه السلام الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار


الصفحة التالية
Icon