وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة فإن ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم إرجاعها إلى الجنود في الجنود،
وفي الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافر».
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الأحكام مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار، ومن غفل عن هذا قال:
الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام، وقيل:
المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل، وليس بذاك، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر، والمراد بالناس قيل أمّته عليه السلام، وقيل ما يعمهم ومن بعدهم، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام، أو يزيدهم علما إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها،
وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلّى الله تعالى عليه وسلّم حتى عرف في وجهه ثم قال: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك.
وأجيب بأن غضبه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلّم ويزيد علما بصحة ما جاء به. ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: ٩٣] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطين الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلم، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام.
وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه وَهُدىً أي إلى الشرائع التي


الصفحة التالية
Icon